اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي "سيد القصر".. سيرةٌ غائرةٌ في بطولات المقاومة وسردية الوعي والهوية

مقالات

صبر المقاومة: من إدارة الزمن إلى صناعة ميزان الردع
مقالات

صبر المقاومة: من إدارة الزمن إلى صناعة ميزان الردع

86

في الحروب غير المتكافئة، تتجاوز قوة الأطراف مجرد امتلاك الأسلحة والمعدات الثقيلة. فالمفتاح الحقيقي غالبًا بيد من يمتلك القدرة على إدارة الزمن والتحكم به كأداة إستراتيجية، لا كعامل عابر. في الحالة اللبنانية، بات “الصبر الإستراتيجي” جزءًا أساسيًا من أدوات المقاومة، وهو ما مكّنها من الحفاظ على وجودها وتأثيرها في معادلة الصراع مع إسرائيل على مدى سنة ونصف بدل أن تُستنزف في جولة واحدة.

الصبر الإستراتيجي يعني هنا أكثر من مجرد الانتظار؛ إنه تموضع محسوب للقوة، توزيع للقدرات وفق مراحل مدروسة، واستخدام للحظة المناسبة بدل إهدار كل ما لديك في البداية. وهذا المفهوم يتقاطع مع فلسفات عسكرية كلاسيكية: فصن تزو في كتابه فن الحرب يرى أن أعظم الانتصارات تلك التي تُحقَّق دون معارك مفتوحة كاملة، وأن التفوق الحقيقي هو أن تجبر خصمك على القتال وفق شروطك الزمنية والإستراتيجية لا وفق شروطه. أما كلاوزفيتز في كتابه عن الحرب فيؤكد أن الحرب ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة سياسية مستمرة، وأن النجاح ليس باستهلاك القوة، بل في تحقيق الأهداف السياسية عبر استخدام القوة في الوقت والمكان المناسبين.

منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، حين اتسعت المعارك بين حزب الله وإسرائيل امتدادًا إلى الصراع الفلسطيني، دخل لبنان مرحلة تصعيد عسكري غير مسبوق منذ عقود. رغم الفوارق الكبيرة في القدرات العسكرية بين الجيش الإسرائيلي والمقاومة اللبنانية، نجحت الأخيرة في تأخير المواجهة الكبرى والحفاظ على سقف قوي من القدرات غير المستخدمة، ما مكّنها من مواصلة الردع رغم الضغط الهائل الذي تعرضت له البلاد.

على مستوى الأرقام الإنسانية، خلّف الصراع منذ تشرين الأول 2023 حتى وقف إطلاق النار في نهاية تشرين الثاني 2024 آلاف الشهداء والجرحى في لبنان، فضلًا عن نزوح جماعي وتدمير واسع للبنى التحتية، وفق إحصاءات وتقارير محلية ودولية. هذه الأرقام تؤكد أن الحملات العسكرية الإسرائيلية كانت واسعة النطاق وعنيفة، لكنها لم تؤدّ إلى تعطيل كامل لقدرة المقاومة على العمل أو إلى إنهاء وجودها كقوة فاعلة.

فبدلاً من تصفية المقاومة أو استنزافها بالكامل، ظل حزب الله قادرًا على الردّ في مناسبات متعددة، وهذا ما ظهر في استمرار إطلاق الصواريخ عبر الحدود وعمليات قتالية محلية حتى وقف إطلاق النار، ما يدفع إلى اعتبار أن معادلة الصراع لم تُنهَ، بل تحوّلت إلى مرحلة جديدة من الاستخدام المنتظم للأوراق الإستراتيجية.

خلال شهرَي آب وأيلول 2024، تصاعدت الهجمات الجوية الإسرائيلية على مواقع في جنوب وشرق لبنان، ما أسفر عن مئات الإصابات وبداية تدخل بري محدود. رغم ذلك ظلّت المقاومة تمتلك قدرة على تنظيم ردود فعلها دون استخدام كامل مجموعتها الصاروخية أو الإمكانات الثقيلة التي تحتفظ بها في الاحتياط، وهو نموذج واضح على تنفيذ مبدأ صن تزو القائل بأن السرّ في القوة هو الإبقاء على عنصر المفاجأة وعدم كشف كل ما لديك للمنافس. ويظهر هنا منطق كلاوزفيتز الذي يربط بين القوة العسكرية والنتيجة السياسية: ليس ما تفعله اليوم هو ما يحدد النتيجة النهائية، بل ما يمكنك استخدامه في المستقبل ضمن سياق أقوى.

مع وقف إطلاق النار في نهاية تشرين الثاني 2024، تبدّل المشهد من جبهة ساخنة إلى احتمالات تصعيد جديد وهدنة هشة. العراقيل التي واجهت تنفيذ الاتفاق، والاتهامات المتبادلة بين الطرفين بانتهاك الهدنة، تؤكد أن المقاومة لم تختفِ أو تضعف لدرجة تمنعها من التأثير المؤسسي في المشهد الأمني والسياسي.

خلال عام 2025، استمرت الخروقات الإسرائيلية عبر الحدود، وسط ضغط دولي مكثف لفرض ترتيبات جديدة في الجنوب اللبناني، بما في ذلك خطط نزع سلاح المقاومة أو نقل السلاح إلى الجيش اللبناني. هذا يؤكد أن المقاومة لم تُقصَ من الحسابات الإستراتيجية، بل بقيت جزءًا مهمًا من أي تسوية مستقبلية.

إسرائيل من جهتها لم تتراجع عن استخدام القوة، إذ استمرت في تنفيذ ضربات جوية على مواقع يُزعم أنها تابعة للحزب، بما في ذلك منشآت يُعتقد أنها تُستخدم لبناء صواريخ دقيقة. المقاومة التزمت وقف اطلاق النار، ما يوضح أن الطرفين أصبحا في مرحلة ما بعد الحرب الشاملة، حيث تُوظَّف القوة في توقيتات منتظمة ومدروسة، لا في هجمات عشوائية مفرطة.

هذه المعادلة تبرز نقطة إستراتيجية مهمة: عندما لا يُستخدم كل سلاحك في الجولة الأولى من المعركة، فإن لدى خصمك دائمًا سببًا لحساب احتمال أن تحتفظ بقوة أكبر مما أعلنته. وهذا عنصر يسهم في ردع أكثر من مجرد الردع البسيط في المعركة. وهذا ما يعزّز الفكرة الأساسية التي طرحها صن تزو حول الاستفادة من قوة لم تظهر بعد، وليس فقط من القوة الظاهرة.

ويتماشى هذا المنطق مع رؤية كلاوزفيتز التي ترى أن الحرب مستمرة حتى عندما تغيب الاشتباكات المفتوحة، لأنها تمتد إلى القرار السياسي وإدارة العلاقات الدولية بعد وقف النار، بما في ذلك المناقشات حول دور السلاح، وأين وكيف يمكن استخدامه في المستقبل. وقد ظهر ذلك في اللقاءات الدولية الكثيرة التي تناولت فكرة الترتيبات الأمنية جنوب لبنان بعد وقف النار.

بهذا المعنى، يصبح الصبر الإستراتيجي في الصراع اللبناني أكثر من مجرد خيار تكتيكي مؤقت؛ إنه خيار إستراتيجي شامل يتجسّد في قدرة المقاومة على إدارة الزمن والمواجهة والسياسة معًا. فالمعادلة لم تُحسم، ولكن المقاومة أبقت على وجودها، ودعمت موقعها في أي حوار سياسي مستقبلي، وما زالت تحتفظ بخيارات عديدة يمكن أن تغيّر نتائج ما بعد الحرب.

في النتيجة: 
 القوة التي تُستهلَك سريعًا تصبح أداة للنهاية السريعة، لكن القوة التي تُوزَّع وتُحتفظ بها لتوقيت لاحق تصبح أداة لصياغة المستقبل. وهذا هو الفرق بين من يركّز على الضربة الأولى، ومن يبني ميزان ردع طويل الأمد يعتمد على الصبر وإدارة الزمن، وليس فقط الاعتماد على عدد الصواريخ أو حجم القصف.

بهذا المعنى، يصبح الصبر الإستراتيجي أحد أهم عوامل بقاء وتأثير المقاومة اللبنانية في المرحلة المقبلة، لأن من يبقَى لديه قوة غير مستخدمة، يكون دائمًا في موقع يسمح له بالمناورة السياسية والعسكرية بعد نهاية المعارك، لا مجرد الاستمرار فيها.

المصادر
- موقع قناة الجزيرة: تقارير حول وقف إطلاق النار وخروقاته.
- وكالة رويترز: تقارير حول الهجمات "الإسرائيلية" والضغط الدولي.
- منظمة هيومن رايتس ووتش: تقرير 2025 حول آثار الحرب في لبنان.

الكلمات المفتاحية
مشاركة