خاص العهد
من قلب الجغرافيا الجنوبية التي أُعيد نقش أسمائها بدماء الشهداء وبطولات المقاومة، وحيث صار كلّ حجرٍ وشجرٍ حاملًا لقصة بطولة، وكلّ بيتٍ مدرسةً لفنّ المواجهة، تنبثق رواية "سيد القصر" للكاتب اللبناني سديف حمادة. فهي ليست مجرد عملٍ سرديّ، بل هي توثيقٌ حيٌّ لمرحلة استقرّ فيها الجنوب على إيقاع مقاومةٍ واعيةٍ، صاغت نَفَسَ الناس وأحلامَهم، وسخّرت الأدب والشعر لترسيخ معاني الصمود في الوجدان والذاكرة.
في هذا العمل الذي يجيد فنّ "السيرة الغيرية"، يقدّم حمادة سيرة البطل المقاوم الشهيد القائد حسن محمود فرحات (أبي علي)، ليس كفردٍ استثنائيّ فحسب، بل كرمزٍ ونموذجٍ لتحوُّل إنسان الجنوب العادي إلى مقاتلٍ يقرأ تاريخه وعقيدته قبل أن يمسك سلاحه. إنها رواية الحوار الداخلي العميق الذي يسبق المواجهة، وحكاية الوداع المؤقت للزوجة دون إفشاءٍ للسرّ، والانطلاق نحو تلال مليتا لتدريبٍ يختزل في ستة أيامٍ تحوّلًا وجوديًّا في تاريخ المقاومة.
في حديثٍ لموقع العهد الإخباري، يكشف حمادة عن خلفيات كتابة "سيد القصر"، ودورها في تشكيل سرديةٍ مضادةٍ للتطبيع، وموقع الأدب المقاوم من معركة الوجود والهوية الثقافية.
السيرة الغيرية: مزيجٌ من الوثيقة والتخيّل الذي لا يخون الحقيقة
بدايةً، يجيب حمادة عن سؤالٍ حول المنهج الذي اعتمده في كتابة سيرة "أبي علي فرحات"، مؤكدًا أن العمل يجمع بين الوثيقة والتخيل الإبداعي: "لا يمكن أبدًا أن نتفق على أن السيرة الروائية هي فقط مزيجٌ من الحقائق والوقائع القائمة على مقابلاتٍ وجولاتٍ ميدانيةٍ للاطلاع على المكان، بل يُضاف إلى ذلك عنصر التخيل الذي لا يخلّ ولا يتعارض أبدًا مع هذه الحقائق، ولذلك هي حاملةُ عنوان "سيرة غيرية". وبالتالي، فلا يمكن على الإطلاق أن تكون توثيقًا في السيرة الغيرية، لأنها ليست توثيقًا، ولكنها تستفيد وتنتفع بالوثائق من أجل كتابتها أو إنجازها".
ويكشف عن المصادر الغنية التي اعتمد عليها: "كانت عشرات المقابلات بخصوص سيرة أبي علي فرحات. بعضها كان مع أشخاصٍ عايشوه وكانوا معه، وبعضها الآخر كان مع عائلته ومحبّيه وأقربائه وأنسبائه. وبعضها كان من خلال ما نشرته جريدة العهد سابقًا عن عملياتٍ كان قائدها أبا علي فرحات. فهذا كله كان مائدةً موضوعيةً أمامنا، وبناءً عليها جرت كتابة سيرة أبي علي فرحات. "سيد القصر" هي حكاية ابن وطنٍ لا يزال تحت الاحتلال".
البيئة الجنوبية: جنديٌّ مساندٌ للبطل ومُكملٌ لبطولته
وعن دور البيئة الجنوبية وطبيعتها في تشكيل شخصية البطل وصيرورته، يرى حمادة أن العلاقة عضويةٌ ولا انفصام فيها: "أولًا، لا يمكن على الإطلاق أن ينفك أي بطلٍ أو أي قائدٍ يعشق بلاده عنها أبدًا. هي جزءٌ من كينونته، بل هو جزءٌ منها. فكلما كان للمكان موقعٌ عميقٌ في تكوين الشخصية، حضر أكثر وكان المكانُ مُعينًا له. كأنما هذا المكان يقدم له ما يريد، يساعده على إنجاز مهمته؛ لأنه ليس غريبًا عن الأرض، هو ابنها الذي خبرها من طفولته. وبالتالي، صار هناك ما يمكن تسميته - وهذا تعبيرٌ تجاوزيٌّ - نوعٌ من الاندماج بين الشخصية والمكان".
ويضيف: "هذا الاندماج لا بد من أن يتجلى في الكتابة، والبيئة بأكملها، ليس فقط المكان الطبيعي، بل الناس هناك، البيوت، الطرقات، كلّ هذه كانت عناصر متكاملة، حتّى تمكّنت من إخراج هذا الانتصار إخراجًا حسنًا متفائلًا".
خطابٌ لجيل اليوم: قراءة التأسيس لتفهّم مسار النصر
وفي معرض رده على سؤالٍ حول قدرة حكاية التأسيس في ثمانينيات القرن الماضي على مخاطبة جيل اليوم، يوضح حمادة: "هي الأقدر على مخاطبة جيل اليوم. فالحروب فيها انتصاراتٌ وانتكاسات، والمشروع مستمرٌ لأنه مشروع حق. وعليه، فعلى جيل اليوم بالضرورة أن يقرأ كلّ الصعوبات التي عاناها أولئك الذين أسسوا المقاومة. أولئك استطاعوا أن يقهروا بإرادتهم وإيمانهم كلّ تلك العقبات الكؤود، وأن يقهروا آلة الحرب الصهيونية الأميركية. اليوم، وبعد ذلك، من يقرأ هذا الإنجاز يدرك تمامًا أنه إذا ما قارن تلك الإمكانات البسيطة بإمكانات اليوم، فلا مجال أمامه إلا النصر".
الاستشهاد في سبيل القضية.. مؤشر النصر
وعندما يُسأل عن رسالة الرواية في زمن الضغوط الإقليمية والدولية الهائلة، يجيب حمادة: "أي عملٍ مقاومٍ لديه أثمانٌ كبيرة، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ. وليس غريبًا أن يرتقي شهيدٌ بطلٌ في مكانٍ ما". ويتابع قائلًا: "أي مقاومةٍ لا تقدم مثل هذا، لا يمكن أن يُكتب لها التوفيق في النهاية. الصحيح أن أقول: إن مقاومةً قدمت قادةً من مثل السيد حسن نصر الله، أو الحاج عماد مغنية هي منتصرة.. كلّ ما قدمت المقاومة شهيدًا من هذا المقام والموقع، هذا مؤشرٌ للانتصار الآتي، ولا يمكن أن يكون مؤشرًا للهزيمة".
الأدب المقاوم: السلاح السردي المضاد للتطبيع
يشرح حمادة أن المواجهة فكريةٌ في الأساس: "مواجهة التطبيع لا تكون فقط بالبندقية، فالتطبيع في الأصل هو فكرةٌ ثقافية. المواجهة بالتطبيع هي في الأصل مشروعٌ ثقافيٌّ عميق. البندقية هي من أجل مواجهة هذا المشروع. لذلك، اليوم هناك تنافسٌ كبيرٌ في ما يخص هذه السردية". هذه السردية، يضيف الكاتب، هي التي "توضح للمجتمع كيف أن هذا العدوّ هو عدو الإنسان. وبالتالي، إذا غابت السردية، ستغيب مقاومة البندقية قطعًا. وعليه، كان لزامًا علينا، نحن أهل أدب المقاومة، أن نعتني بهذه السردية".
أعمالٌ مرتقبة: طفرةٌ في الإصدارات المقاومة
وعن الأعمال المرتقبة، يبشّر حمادة بموجةٍ قادمة: "بعد معركتي (طوفان الأقصى) و(أولي البأس)، كثرت الكتابات في أدب المقاومة. يمكن للقارئ الكريم أن يقرأ في الأشهر الآتية إصداراتٍ متعددةً تفوق العشرة في هذا المجال". وبيّن حمادة أن بعض هذه الكتابات في الرواية التخيلية، وبعضها في السيرة الحقيقية، وفي قصص أبطال البأس الذين سطّروا ملاحمَ بطوليةً رائعة، استطاعوا بدمهم أن يثبتوا قضية الحسين الكونية".
وختم الكاتب سديف حمادة حديثه بالتشديد على أن "حرب السرديات مستمرة، وأن أدب المقاومة يظل خندقًا أصيلًا في معركة الوعي والهوية".