مقالات

فور شيوع نبأ تعرض قواعد جوية روسية تحوي قاذفات قنابل إستراتيجية تطير لمدى طويل، اعتقد كثيرون أن "يوم القيامة" الروسي قد اقترب، على اعتبار أن روسيا دولة نووية ومن الصعوبة بمكان أن تتقبل مثل هذه الضربة القاسية التي وقعت في عمقها الآمن.
سادت تكهنات بأن روسيا قد تلجأ إلى السلاح النووي التكتيكي لتأديب أوكرانيا والإسراع في إنهاء الحرب الدائرة منذ أكثر من ثلاثة أعوام لمصلحتها. لكن هذا الخيار مقيَّد لأسباب عدة. وربما ينبغي التذكير بالمعطيات الآتية:
- تلقت روسيا ضربات قوية عدة خلال حربها مع أوكرانيا والحلف الغربي الداعم لها، ليس أقلها قصف الكرملين والعاصمة موسكو بالمسيّرات الانتحارية، وإغراق الطرَّاد "موسكفا" وهو من أهم القطع البحرية الروسية، وضرب قاعدة "إنجلز" الجوية الروسية المهمة جداً، وتفجير جسر شبه جزيرة القرم، وضرب موانئ نفطية روسية، واغتيال مسؤولين في المنظومة الأمنية أو العسكرية الروسية، وصولاً الى احتلال أراضٍ روسية في مقاطعة كورسك. وكان رد فعل روسيا في كل مرة أقل مما توقعه كثيرون، لأن حسابات الروس العسكرية مختلفة: روسيا تخوض معركة النفَس الطويل لتقويض نظام كييف، والأخير يبحث عن إنجازات سريعة مبهرة لإجبار روسيا على التفاوض من موقع ضعف.
- خيار استخدام النووي التكتيكي متاح لروسيا نظرياً فقط. وقد قال الرئيس فلاديمير بوتين عند تعديل العقيدة العسكرية الروسية، إن استخدام السلاح النووي ممكن إذا تعرض وجود روسيا للخطر. وبالتأكيد، التعرض لقواعد جوية لا يمثل ضربة وجودية. وعندما قد تفكر موسكو جدياً باستخدام السلاح النووي التكتيكي في مناطق محدودة، فعليها أن تحسب حساباً لرد فعل غربي قوي، لأن ذلك سيفتح الباب أمام استخدام واسع لهذا السلاح ومن قبل أكثر من قوة نووية. ولحدّ اليوم، توجد دولة واحدة في العالم استخدمت السلاح النووي ويمكن أن تستخدمه مجدداً، وهي الولايات المتحدة التي لن تقبل أن تستخدم روسيا أو غيرها سلاح الردع النووي حتى لو كان تكتيكياً. بمعنى آخر، تمتلك دول عدة السلاح النووي، لكن دولة واحدة فقط أثبتت طَوال عقود أنها تملك إرادة استخدامه من دون التعرض لخطر وجودي، وهذا عامل رادع لروسيا في ظل توازن الردع النووي وهيمنة الولايات المتحدة العسكرية والسياسية على الواقع الدولي حتى اليوم.
- استهلكت روسيا خياراتها العسكرية التقيلدية من الصواريخ الباليستية والمسيّرات والطائرات الحربية على أنواعها، وليس لديها وسائل ردّ رادع ولمرة أخيرة على الهجمات الأوكرانية في عقر دارها. وبالتالي، عليها أن تتجاوز آثار الضربة الأوكرانية الأخيرة وتمتص مفاعيلها وتردّ عليها بتحقيق تقدم على الأرض، كما يحصل في بعض الجبهات حالياً.
- لا يوجد لدى روسيا قدرة على اختراق أوكرانيا أمنياً، كما تفعل أوكرانيا داخل روسيا على نحو متكرر. لماذا؟ ربما لأن الاستخبارات الأوكرانية تتلقى الدعم المباشر من جميع أجهزة الاستخبارات الغربية: الأميركية والبريطانية والفرنسية والألمانية وغيرها. كما أن الأجهزة الأوكرانية تمكنت من اجتثاث العديد من المسؤولين الأوكرانيين الذين كانوا يتعاملون مع موسكو. إلى جانب ذلك، تمتلك روسيا قاعدة تصنيع عسكرية ضخمة وجيشاً كبيراً، لكنها تفتقر لتنسيق قدراتها وتوظيفها في شكل أفضل.
لكل هذه الأسباب، تخوض روسيا حرب إخضاع لنظام أوكرانيا الموالي للغرب بوسائل مكلفة لكنها فعالة نسبياً حتى الآن، وهي تراهن على أن أوكرانيا تضعف مع الوقت اقتصادياً وبشرياً، بالرغم من كل الدعم الذي تلقته الأخيرة من دول الناتو. ولكن هذا لا ينفي أن المكاسب التي حققتها روسيا حتى اليوم يمكن أن تتبدَّد إذا تمكنت كييف من مراكمة وزيادة الاختراقات الأمنية داخل روسيا والتي تصاعدت بدرجة مقلقة مؤخراً.