مقالات مختارة

100 يوم عن مشكلات رئيس الحكومة مع أهل البلد!
المؤكّد أنّ سلام بحاجة إلى إجازة لبضعة أيّام، يعيد فيها مراجعة كلّ ما جرى معه في المدّة الماضية، ويضع أمامه مهمّات محدّدة ومتواضعة، قابلة للتحقّق في المدّة المتبقّية من عمر الحكومة الفعليّ.
إبراهيم الأمين - صحيفة الأخبار
في كلّ مرة تسيطر العلاقات العامة على العلاقات الفعلية، تحضر حكاية الملك الذي استضاف شاعرًا متزلّفًا أطربه بقصيدة مدح طويلة، ولما انتهى، قام الملك من مجلسه، وقال لوزيره: "أعطِه ألف دينار"، ثمّ غادر. ولما همّ الوزير باللحاق به، أمسك الشاعر بالوزير قائلًا: "إلى أين تذهب، ألم تسمع الملك يأمرك بأن تعطيني ألف دينار؟"، فرد الوزير: "كل ما في الأمر أنك سررتنا بكلام، فسررناك بمثله"!
بعد مرور مئة يوم على تشكيل حكومته، أطل الرئيس نواف سلام معددًا ما أسماه الإنجازات. استعرض ضمنًا أبرز المشكلات التي تواجه لبنان، بما في ذلك الجانب المتصل بالعدوان "الإسرائيلي" على لبنان وآثاره. لكنّه لم يتحدث عما فعلته حكومته لمعالجة مشكلة عشرات الآلاف من السكان الذين تضرروا أو تهجروا بفعل الحرب. وخرج علينا، ليقول إن حكومته أزالت الصور الحزبية عن طريق المطار، وإن هناك إجراءات تحصل لمنع النفوذ الحزبي في المطار نفسه.
نواف سلام ليس ابن اليوم. لكنّ خبرته وتجاربه ليست من النوع الذي يقود إلى الحسم بقدرته على إدارة العلاقات الداخلية في البلاد. يمكنه أن يقول إنه لا يريد أن يبني زعامة محلية كغيره، وهذا حقه، ولكنه يتجاهل أن موقع رئاسة الحكومة هو مركز السلطة الفعلية في لبنان ما بعد اتفاق الطائف، وأن حصانة هذا الموقع لا تُستمد من صلاحيات نصّت عليها بنود في الدستور والقوانين، بل من القاعدة السياسية التي تتشكّل منها الحكومات في لبنان. وهو خبر ذلك عندما اضطرّ لدى تشكيل حكومته، إلى عقد تسويات داخلية وخارجية، سمحت لها بأن ترى النور. لكن مشكلته أنه، بعد تشكيل الحكومة، قرّر العودة إلى أداء الرجل الذي يمكنه الاستغناء عن الجميع، ولذلك وجد نفسه سريعًا في مواجهة كلّ الأطراف دفعة واحدة:
- مشكلة مع رئيس الجمهورية جوزيف عون الذي لم يكن راضيًا عن تسميته أصلًا، وغير المرتاح إلى آلية العمل معه لاحقًا. إذ لا يرى رئيس الجمهورية أنه مضطر إلى استئذان سلام للقيام بما يراه ضروريًا، سواء في السياسات الخارجية أو الدفاعية للدولة، أو في السياسات الداخلية بما فيها التعيينات. وكان الاختبار الأكبر لسلام عندما أصر عون على تعيين كريم سعيد حاكمًا لمصرف لبنان. فللمرة الأولى في تاريخ التعيينات منذ اتفاق الطائف، يُفرض على رئيس الحكومة اسم معين، أو التصويت على اسم معين.
في تلك اللحظة، بدا سلام عاجزًا حتّى عن تأجيل الجلسة، وهي نقطة يحاول التخفيف من أهميتها، ولكنه يعرف أنها الإشارة الأكثر وضوحًا على حجم نفوذه في الحكومة نفسها.
- مشكلة مع رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي لم يكن هو الآخر من الراغبين في تسمية سلام لرئاسة الحكومة أو لأي منصب رسمي آخر. لكن الأهم بالنسبة إلى رئيس المجلس أنه يدير الوضع السياسي في هذه المرحلة بطريقة تحافظ على موقعه المتقدم بين كبار المسؤولين. وهو لم يسمح، منذ توقف الحرب، بأن يتم التعامل معه كطرف مهزوم أو محدود النفوذ في إدارة الدولة، ونجح خلال وقت قصير في بناء علاقة متوازنة مع الرئيس عون، تطوّرت بينهما إلى حدّ أن يُنقل عن بري قوله إن "الشيعة فازوا بورقة يانصيب مع انتخاب عون رئيسًا للجمهورية".
وقد تصرّف رئيس المجلس، منذ اللحظة الأولى، كمدركٍ بأن سلام ليس إلّا "رجل نكايات" مهجوسًا بإظهار نفسه كشخص قادر على كسر شوكة الرئيس الدائم في حكم ما بعد الطائف، والقادر على فرض شروطه في إدارة العلاقة مع مجلس النواب، آخذًا في الحسبان أن أبرز الوزراء الشيعة، وزير المال ياسين جابر، لم يأتِ إلى منصبه نتيجة تسمية بري له فقط، بل باعتبار أن لعدد من الأطراف الداخلية والخارجية "حصصًا" فيه.
وهو ما اضطُر رئيس الحكومة إلى محاولة خلق توازن مع وزارة المالية، فاختار عامر البساط لوزارة الاقتصاد، ليس لأن لديه برنامجًا خاصًا لهذه الوزارة وهو الذي لم يكن يعرف سعر ربطة الخبز، بل كمندوب عن رئيس الحكومة في إدارة الملفات المالية والنقدية. وفي هذا السياق، يحاول سلام فرض تصوراته على مشاريع القوانين المرسلة إلى الحكومة، مفترضًا أنه قادر على إجبار بري على السير فيها لأنها مطلوبة من الخارج أيضًا.
معضلة نواف سلام ليست في علاقته المركّبة مع الطبقة السياسية، بل في كونه أكثر التفاتًا إلى الخارج من الداخل، ويعيش وهم أنّ لبنان تغيّر فعلًا!
كل ذلك، دفع ببري إلى التعامل معه كـ"أمر واقع". لكن داهية السياسة اللبنانية يعرف كيف ينصب الأفخاخ، وليس بين سياسيي لبنان من يعتقد بأن سلام قادر على النجاة منها.
- مشكلة مع القوى السياسية المسيحية، وفي مقدمتها حليفا حزب الله، التيار الوطني الحر وتيار المردة.
إذ اعتبر سلام نجاحه في إبعادهما عن الحكومة انتصارًا له، ليجد نفسه أمام معضلة مراضاة "القوات اللبنانية"، وهي جهة غير محبّبة أساسًا لدى رئيس الحكومة وصحبه.
لكنه، عندما فهم من أطراف الوصاية الخارجية بأن "القوات" شريك أساسي في الحكم الجديد، اضطرّ ليس فقط إلى مراضاتها في حصتها الوزارية، بل أيضًا إلى القبول بهامش لها يتعلق بموقف الحكومة السياسي، وهو ما يعبّر عنه وزير الخارجية يوسف رجي في كثير من الأحيان، وما يسمعه سلام من بقية وزراء "القوات" داخل جلسات الحكومة.
مع ذلك، يعرف سلام جيدًا أن معراب لا ترى فيه الرجل المناسب لمواجهة حزب الله، وأنها اضطرّت إلى التعامل معه لتحقيق نوع من التوازن مع الرئيس عون.
وقد بدا رئيس الحكومة ضعيفًا جدًا عندما لبّى المطالب السعودية بزيارة قائد "القوات" في منزله، الأمر الذي استفز "جمهور موقع رئاسة الحكومة" احتجاجًا على هذه الخطوة النافرة، إلى حد أنه ينسب للرئيس عون سؤاله رئيس الحكومة: كيف تذهب إليه وما الذي منعه من زيارتك؟ ها أنا، يلحّ عليّ منذ ما قبل الانتخابات الرئاسية، ولكنني لا أقبل القيام بخطوة لا تتناسب والموقع الذي أمثّله". ولم يكن لدى سلام جواب سوى التذرّع بأن ظروف جعجع الأمنية دفعت إلى عقد اللقاءات في معراب.
رغم ذلك، فإن مشكلات رئيس الحكومة لم تُحلّ، لا مع "القوات" ولا مع بقية الأطراف المسيحية. فقد تعرّض لحملة كبيرة من شركائه في الحكومة عندما سمّى طارق متري وغسان سلامة وزيرين في الحكومة بحجة أنهما لا يمثلان الكتل المسيحية، لا النيابية ولا السياسية. وقد يكون لافتًا أن سلام بات يعد من أكثر رؤساء الحكومة ضعفًا في العلاقة مع الجمهور المسيحي، وأصبحت تخرج إلى العلن شكاوى منه من شخصيات مسيحية نافذة في القطاعين الاقتصادي والمصرفي والإعلامي.
- مشكلة مع أكبر أحزاب لبنان، أي حزب الله، لا تقتصر تداعياتها على الملفات الداخلية، بل تتعداها إلى ساحات إقليمية ودولية، وهو ما يعرفه رئيس الحكومة أكثر من غيره. والمشكلة هنا مركّبة. فسلام "تدرّج" سياسيًا في "مدارس" كانت خلال العقود الأربعة الماضية على خلاف مع حزب الله. وهو ليس مصنّفًا ضمن "الإسلام المعتدل"، ولا يعنيه أساسًا الانتماء إلى هذا النادي، إذ إنه علماني يحلم بدولة مدنية من دون قيد طائفي، ولديه نظرته إلى دور رجال الدين وتقييمه الخاص لدور أحزاب الإسلام السياسي في المنطقة العربية والإسلامية.
وإضافة إلى هذه "العقدة الفكرية"، فقد كان سلام جزءًا من الفريق السياسي المعارض لحزب الله. صحيح أنه ليس جزءًا من الماكينة الغربية المناصرة ل"إسرائيل"، ولكنّ نظرته إلى الصراع مع "إسرائيل" تبدو أقرب إلى القوى والحكومات العربية التي تعتبر أنّ المقاومة المسلحة ليست الخيار المناسب لتحصيل الحقوق العربية من العدو.
كما إنّ فكرة السلام بالنسبة إليه لا ترتبط حكمًا بتطبيع حار أو بارد مع كيان العدو، بل تستهدف إنهاء حالة الحرب معه وصولًا إلى إنهاء حالة العداء. وهو، هنا، يصبح في الملف الفلسطيني أقرب إلى محمود عباس من حركة "حماس"، ولبنانيًا أقرب إلى فؤاد السنيورة من حزب الله، وإقليميًا أقرب إلى السعودية وسورية (الجديدة) من إيران أو حتّى العراق لجهة عدم اعتبار الصلح مع "إسرائيل" شرطًا للحياة.
هذه البنية كلها تجعل سلام يتصرف بشكل مستقل على قاعدة أن لا حاجة إلى المقاومة، وتاليًا لا حاجة إلى سلاحها. ورغم إدراكه لطبيعة "إسرائيل" التاريخية، وما استجدّ على عقلها الوحشي منذ 7 أكتوبر 2023، إلا أنه أكثر قربًا من رغبة أطراف الوصاية الخارجية حيال ما ينبغي القيام به ضدّ حزب الله. وهو ما يولّد أزمة ثقة كبيرة جدًا، وقد يولّد مشكلات كالتي تظهر بين الحين والآخر. و"كل الود" الذي يجري ضخّه في الخطب والكلمات، لا يعني شيئًا خارج دائرة المهادنة.
إلى جانب هذه المشكلات، هناك ما لا يمكن الحديث عنه، لأنه يصبح نوعًا من "النميمة"، حيث تضجّ صالونات ومكاتب الوزراء، من الصنوف كافة، بأخبار عن طريقة إدارة رئيس الحكومة لشؤون الوزارات، أو آليات العمل اليومية.
المؤكد أن سلام بحاجة إلى إجازة لبضعة أيام، يعيد فيها مراجعة كلّ ما جرى معه في المدة الماضية، ويضع أمامه مهمات محدّدة ومتواضعة، قابلة للتحقق في المدة المتبقية من عمر الحكومة الفعلي، والذي ينتهي بعد تسعة أشهر، كي لا تصبح كلّ علاقاته شبيهة بعلاقة الملك بالشاعر المتزلّف... وما أكثر الصنفين في بلادنا!
المشكلة الأكبر مع المواطنين: كيف يقبل سلام ربط الإعمار بالسياسة؟
قد تكون المشكلة الأكبر لرئيس الحكومة نواف سلام، هي تلك القائمة مع قسم غير قليل من اللبنانيين، تحديدًا سكان جنوب لبنان والبقاع والضاحية الجنوبية. وهي ليست مشكلة مع الشيعة منهم فقط كما يعتقد البعض، بل مع كلّ سكان هذه المناطق التي تضررت بفعل العدوان الإسرائيلي. في هذه النقطة، تصبح مشكلة سلام أكثر عمقًا، كونها مشكلة مع المواطن اللبناني. خصوصًا أنه يفترض به أن يكون الأقرب إلى فكرة حماية المواطن، وتوفير الحاجات الضرورية لبقائه على قيد الحياة. وتبدأ هذه المشكلة، مع موافقته على اعتبار عملية إعادة الإعمار جزءًا من الحل السياسي والإصلاحي.
عند هذا الحد، تصبح مشكلته كبيرة جدًا، لأنها لا تتعلق بتصور سياسي حول أداء الحكومة أو مؤسسات الدولة. بل لكونها تعكس فهمًا خطيرًا لعلاقة الدولة بمواطنيها. ومشكلة سلام تتعاظم، كونه لم يبادر إلى فتح النقاش، لا في مجلس الوزراء ولا خارجه، حول ما يتوجب على الحكومة أن تقوم به لمواجهة هذا التحدي.
لا سيما أن مناقشات أكيدة (مثبتة بالمحاضر) حصلت مع جهات دولية، من عواصم ومؤسسات مالية دولية، حسمت بأنه لا يمكن لأي دولة، تحت أي ظرف، أن ترهن المساعدة الإنسانية بشروط سياسية. وهذا يعني أن مسؤولية الحكومة اللبنانية هي فتح النقاش العملاني حول ما يمكن للدولة القيام به. ولو حصل ذلك، وعسى أن يحصل، فإن الخلاصات ستكون سهلة بما يمكّن الحكومة من القيام بالكثير من الخطوات.
وبحسب ما هو مثبت عند جهات مختصة، فإن الحكومة قادرة، إن أرادت، على توجيه صرف القروض المجمعة من البنك الدولي أو من مؤتمرات دولية (هناك الآن 325 مليون دولار)، إذ تخدم فكرة الإعمار السريع للبنى التحتية التي تساعد الناس على العودة إلى أماكن سكنهم. كما يمكن أن تبادر إلى طرح مشروع قانون استثنائي، يتيح لها استخدام قسم من موجودات الحساب 36، ولو بقيمة تصل إلى مليار دولار، لإعمار كلّ القرى الحدودية حتّى عمق 4 كلم، وهو مبلغ كافٍ وفقًا لتقديرات العاملين على الأرض.
كذلك، يمكنها مباشرةُ تفاهمات عملية مع العراق على تسييل جزء من حساب الحكومة العراقية في المصرف المركزي لمصلحة إعمار المساكن المدمرة، وفقًا لخارطة تعد بالتفاهم مع الحكومة العراقية. علمًا أنه في حال إطلاق هذه العملية، فإن هناك أبوابًا كبيرة يمكن أن تصل عبرها المساعدات التي لها طابع إنساني، إلا إذا بقي نواف سلام يعتبر أنّ عودة الناس إلى منازلهم فعل سياسي يناسب جهة ما.