مقالات مختارة

صحيفة الأخبار
كان لافتًا حجم وسرعة التغيّر في ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان، إذ بلغت 628 تريليون ليرة (7 مليارات دولار) في منتصف أيار 2025، مقارنة مع 185 تريليون ليرة (2 مليار دولار) في كانون الأول 2023، أي بزيادة 5 مليارات دولار خلال سنة وخمسة أشهر. وهذا البند الذي يشمل حسابات أودعت وزارة المال المجموعة من حاصلات الضرائب والرسوم، بالإضافة إلى كلّ ما تجمعه مؤسسات القطاع العام الأخرى مثل المرفأ وصندوق الضمان ومؤسسات المياه وبلديات وسواها من المؤسسات التي لديها ذمّة مالية مستقلّة عن الخزينة.
تطوّر هذه الحسابات بهذه السرعة، ونموّها بقيمة 5 مليارات دولار خلال مدة 17 شهرًا يظهران بوضوح أن الدولة بكلّ فروعها، سواء المركز المتمثّل بالخزينة، وصولًا إلى المؤسّسات المستقلّة، تدّخر أكثر بكثير مما تنفق، وأنها بشكل عام صحّحت إيراداتها، ولكنها تعاني من التشتّت والضياع إذ ليس لديها بوصلة تنموية - استثمارية، بل تنتظر توجيهات غائبة من السلطة المركزية، باستئناف عملها الزبائني للانفاق على "الدكاكين" التي تعمل للاستقطاب الجماهيري بعيدًا من أي عمل تطويري يمكن أن يكون له جدوى اقتصادية أو اجتماعية.
هذا التطوّر لم يحصل دفعة واحدة، بل جاء على مراحل زمنية كان أبرزها في كانون الثاني 2024 حين ازدادت قيمته بضربة واحدة من 185 تريليون ليرة في نهاية كانون الأول 2023 إلى 397.6 تريليون ليرة. وبحسب مصادر في مصرف لبنان، فإن تفسير هذا الأمر يعود إلى أمرين؛ إذ أدخل القطاع العام في هذه المدة كمية من الدولارات الفريش ما أدّى إلى "انتفاخ" في الرصيد المحسوب بالليرة اللبنانية، بالإضافة إلى تعديلات في سعر الصرف لعبت دورًا محاسبيًا "تجميليًا" لأن الرصيد في هذه الحسابات يتنوّع بين دولارات يصنّفها مصرف لبنان "قديمة، أو تسمّى "لولارًا" وليرات تصنّف "قديمة" أيضًا وليرات "فريش".
والدولارات المصنّفة "لولارًا" يحتسبها مصرف لبنان في الميزانية بسعر صرف 89500 التزامًا بعملية توحيد سعر الصرف ويسعّرها كأنها دولارات فريش ولكنها في الواقع تصرف بقيمة 15 ألف ليرة. طبعًا يخالف قواعد المحاسبة والوقائع، إلا أنه يجري تبرير الأمر بأن هذه الدولارات المصنّفة لولارات لا محلّ لها في السوق أو ليست متوافرة أصلًا، إذ إن مصرف لبنان أوقف استعمالها في حساباته نهائيًا وترك المصارف تتعامل مع زبائنها وفق الحاجة، أو وفق خيار تقليص الودائع، أي إنه يشطب للمصارف مقابل تسديد هذه الدولارات للزبائن، مقابلًا لها في توظيفات المصارف لديه.
بالنسبة إلى ما يسمّى ليرات قديمة، فلا أحد لديه تصوّر واضح عما يعنيه ذلك، سوى أن المصارف ومصرف لبنان فرضا على السوق أن الليرات العالقة في الحسابات المصرفية قبل تشرين الأول 2019، تصنّف قديمة وقيمتها أدنى من قيمة الليرة الفريش! وأن المصارف تقترض من بعضها ليرات قديمة بسعر أدنى من قيمة الليرة الفريش بهوامش كانت 1% وبلغت في مراحل ما 12% وربما أكثر بكثير ربطًا بالفوائد المترتبة على عمليات الإقراض اليومي بين بعضها البعض (انتربنك).
يصنّف مصرف لبنان المبالغ المتوافرة في حسابات الدولة بين دولار ولولار وليرة قديمة وليرة فريش
كذلك، في هذا الحساب مبالغ جمعتها الدولة بكلّ فروعها المركزية (وزارة المال) وغير المركزية (مؤسسات القطاع العام) دولارات فريش مصنّفة بسعر السوق البالغ 89500 ليرة مقابل الدولار الواحد. وهذه المبالغ بدأت تتجمّع في هذا الحساب بالتزامن مع التصحيحات التي أجريت على سعر الصرف والتي جرى تضمينها في الموازنة العامة وبالتزامن مع السماح بتحصيل الضرائب والرسوم بالدولار، سواء في مرفأ بيروت ومطار بيروت ومؤسسة كهرباء لبنان وسواها.
وبمعزل عن كلّ هذا الهراء التصنيفي، فإن الحساب لدى مصرف لبنان يظهر تراكم مبلغ مالي إجمالي بالليرة قيمته 628.9 تريليون ليرة، وهو مبلغ يوازي بسعر السوق اليوم 7 مليارات دولار، وهو لا يفصّل للعموم رصيد هذه الحسابات تبعًا لتصنيفاته. وما ساعد في تجميع هذا المبلغ هو أن عمليات الخزينة تحقق فائضًا سنويًا. فبحسب النشرة الأسبوعية لبنك بيبلوس، حققت عمليات الخزينة (تحصيل وانفاق) فائضًا في السنتين الماضيتين بقيمة 380 مليون دولار في 2023، وبقيمة 297 مليون دولار في 2024. وما ينطبق على عمليات الخزينة ينطبق أيضًا على عمليات المؤسسات العامة ذات الاستقلال المالي.
قد يظهر أن الفوائض في الموازنة العامّة هي مؤشّر جيّد، وأن المالية العامّة في وضع سليم. لكن عند الغوص في أسبابها، يظهر أن الدولة بكلّ فروعها، قررت منذ سنتين التقشّف المتشدّد. يعود هذا الأمر إلى أمور عدّة، أوّلها ربط السياسة المالية بالسياسة النقدية التي تحاول الحفاظ على سعر صرف ثابت. إذ إن هذه العملية تحتاج إلى حجز أموال الدولة في مصرف لبنان، وتخفيف حجم كتلة الليرة في السوق، وذلك لإبقاء الطلب عليها مرتفعًا نسبةً إلى العرض، وبالتالي الحفاظ على سعر الصرف. أيضًا يشار إلى أن توقّف الحكومة عن سداد الدين يلعب دورًا أساسيًا في تحقيق الفوائض، وهذا الأمر ليس مستدامًا، إذ إن الدولة ستضطر لاحقًا إلى إدراج مستحقات مترتبة عليها للدائنين في الموازنة وتسديد الأموال المستحقة والمتراكمة لهم بمعزل عما سيتفق عليه معهم لجهة "الهيركات".
على أي حال، إن التوقف عن الانفاق لخدمة ثبات سعر الصرف أو فرض استقراره اصطناعيًا، يعني أن السياسة النقدية تتحكّم في السياسة المالية، وأن هذه الأخيرة باتت محدودة القدرة على الانفاق في أي مجال غير الاستهلاك الضروري، وأن انفاقها الاستثماري يكاد يكون معدوم الوجود. التقشّف يعني انخفاض نوعيّة وعدد الخدمات العامّة، وهو مؤشر على الركود والبطالة والمزيد من الفقر بالإضافة إلى تكريس الرداءة نمطًا للحياة يظهر بشكل واضح للعيان.