مقالات

من طهران إلى "تل أبيب"، ومن غزة إلى واشنطن، تُعاد صياغة خرائط القوة في منطقة غرب آسيا (الشرق الأوسط) لا عبر مؤتمرات السلام أو اتفاقيات التطبيع، بل بصوت الصواريخ. وفي ظل الرماد المتصاعد من عواصم مهزوزة، أخلاقيًا وعسكريًا، عملية "الوعد الصادق 3" ليست مجرد ردّ إيراني على اغتيال أو عدوان؛ هي إعلان استراتيجي من محور المقاومة بأن زمن الهيمنة أحادية الاتجاه قد انتهى، وأن وهم الردع "الإسرائيلي" الذي بُني، منذ العام 1948، بدأ يتآكل في وضح النهار.
من "وكالة بالنيابة" إلى محور مقاومة متماسك
على مدى سنوات طويلة، ارتاح النظام الدولي للتوازن الهش القائم على معادلة معوّقة: تُهاجِم إسرائيل وتغتال وتقصف، بينما تكتفي إيران وحلفاؤها بالرد عبر أطراف ثالثة، في حروب موضعية منخفضة التكاليف تُبقي التوتر ضمن حدود "الممكن السياسي". لكن "الوعد الصادق 3" مثّل قطيعة مع هذا المنطق، إذ قررت طهران كسر هذا الحصار الاستراتيجي والخروج من المنطقة الرمادية إلى الضرب المباشر، معلنةً بصراحة: نحن لسنا فقط داعمين لمحور المقاومة، بل رأس الحربة فيه.
الهجوم الأخير كشف حجم التغيّر البنيوي في ميزان الردع: مئات المسيّرات والصواريخ الباليستية الدقيقة انطلقت من العمق الإيراني، واستهدفت عمق الكيان، من دون وسيط، ومن دون قناع. هذا ليس تصعيدًا فحسب، هو نقل لمكانة إيران من لاعب إقليمي إلى قوة مواجهة مباشرة، وفقًا لنمط الدول النووية، وإن لم تكن كذلك رسميًا.
رهانات نتنياهو الفاشلة.. من خداع ترامب إلى فخّ الردع العكسي
ما لم يُقل في الإعلام "الإسرائيلي" يكشف أكثر مما يُقال. بنيامين نتنياهو، وهو المحاصر سياسيًا في الداخل "الإسرائيلي" والمثخن عسكريًا في غزة، أعدّ بعناية هذا السيناريو: ضربة استباقية تطال قادة بارزين في الحرس الثوري وعلماء في منشآت حيوية، مثل نطنز وخنداب، بهدف إرباك القيادة الإيرانية وإظهار هشاشتها، ودفعها إلى التريث، وربما التراجع عشية جلسة المفاوضات المفترضة مع الأميركيين، في 15 حزيران/يونيو 2025.
هذا؛ وتؤكد الرواية التي تسربت من محيط ترامب أن نتنياهو أقنع الإدارة الأميركية – أو بالأحرى استدرجها – إلى هذا الخيار، تحت عنوان: "ضربة محدودة الآن ستمنع تنازلات مؤلمة لاحقًا". كان الرهان أن تشعر طهران بالضعف، فتأتي إلى الطاولة منكسرة، مرنة، ومساومة. لكن ما حدث كان العكس تمامًا. في غضون ساعات، أعلنت إيران تعيينات فورية لقادة الحرس، بطريقة تنمّ في جهاز مؤسسي غير قابل للشلل؛ ثم جاء الرد الميداني الشامل، لا من حلفاء إيران في اليمن أو لبنان أو العراق فحسب، من إيران نفسها، وبمستوى تدميري غير مسبوق.
هكذا تحوّل الرهان "الإسرائيلي" إلى فضيحة استخباراتية واستراتيجية. لم تُربك إيران، إنما كشفت هشاشة الاستراتيجية "الإسرائيلية" في فهم بيئة العدو، وأسقطت نظرية أن "الردع يُبنى بالاغتيال".
الردع المتآكل.. القبة التي تسرّب اللهب
ما بعد العام 2006، بُنيت هندسة الردع "الإسرائيلي" كلها على فرضية واحدة: أن العقاب سيكون ساحقًا لأي طرف يجرؤ على ضرب "إسرائيل" مباشرة، وبالتالي الردع سيمنع أصلًا الهجوم. هذه الفرضية، والتي استُخدمت لتسويغ الدعم العسكري الأميركي وتطوير القبة الحديدية ومنظومات "آرو" و"مقلاع داوود"، تهاوت فجأة. إذ هناك مواقع "إسرائيلية" كشفت بعد الهجوم فشل المنظومة الدفاعية في اعتراض نسبة يعتدّ بها من الصواريخ، وأن "تل أبيب" تعرّضت لدمار جزئي، شمل مباني شاهقة في رمات غان وريشون ليتسيون. هذا الانكشاف لم يكن تقنيًا فقط، هو أيضًا سياسي:
1. لأول مرة، بدا أن "إسرائيل" ليست "المحمي الأميركي المطلق"، وأن حتى واشنطن – على الرغم من كل وجودها العسكري في المنطقة – لم تستطع تحييد الهجوم.
2. هذا التآكل في الردع لا يقتصر على إيران، هو أيضًا يشجّع حلفاءها على تغيير قواعد الاشتباك: من حزب الله في الجنوب اللبناني، إلى أنصار الله في اليمن، إلى الحشد الشعبي في العراق. فكلهم يرون الآن أن الكيان ليس منيعًا، بل قابل للاختراق.
هل صعود القلق من فقدان السيطرة يؤدي إلى الهروب إلى الحرب الكبرى؟
حين تفقد قوة استعمارية أدوات الردع التقليدية، يتحوّل القلق إلى هستيريا استراتيجية. "إسرائيل"، اليوم، لم تعد تقاتل في غزة وحسب، هي تحارب في جبهات متعددة: طائراتها تضرب في لبنان وسوريا، أنظمة دفاعها تعمل، ليلًا ونهارًا، وجبهتها الداخلية باتت مهددة. في هذا السياق، يصبح خيار الحرب الكبرى أكثر من احتمال، خاصة إذا كان يُنظر إليها خيارًا انتحاريًا لتثبيت التفوق أو حربًا وقائية أخيرة قبل الانحدار.
لكن المشكلة أن "إسرائيل" لم تعد قادرة على الحسم. تجربتها في غزة كانت فاشلة في تحطيم حماس، وهجومها على إيران جرّ ردًّا أقوى، في حين أن الموقف الدولي يتآكل هو الآخر، مع تراجع قدرة واشنطن على فرض السردية الوحيدة.
الإعلام الغربي والوجه البشع للنظام الدولي
في خضمّ كل هذه التحولات، يبقى مشهد الإعلام الغربي كاشفًا لعمق الأزمة الأخلاقية في النظام الدولي. الوسائل ذاتها التي تملأ صفحاتها بالبكاء على صواريخ تسقط على خاركيف، تتجاهل عمدًا مشاهد الأطفال تحت الأنقاض في غزة، أو المدنيين في طهران. إنها ليست مسألة مهنية، بل انحياز بنيوي نابع من أن ضحايا منطقة غرب آسيا (الشرق الأوسط) لا ينتمون إلى "العائلة البيضاء" للحضارة الغربية.
نحن أمام انحطاط أخلاقي مُمنهج، يخدم بقاء "إسرائيل" كـ"حصن الديمقراطية الوحيد في الشرق الأوسط"، وفقًا لخطاب سقط منذ زمن، لكنه ما يزال حيًا في عقول نُخب إعلامية عاجزة عن رؤية الحقائق الجديدة.
أسئلة المرحلة المقبلة.. من التصعيد إلى ما بعد الغموض
ما بعد "الوعد الصادق 3"؛ وجدت مساحة رمادية، حتى مفترق طرق استراتيجي. من هنا، تطرح المرحلة أسئلة حاسمة:
1. هل تقرّر "إسرائيل" استخدام سلاحًا نوويًا تكتيكيًا أم تلوّح به للردع؟
2. هل تتورط الولايات المتحدة عسكريًا، بشكل مباشر، أم تواصل تقديم الدعم من دون الانخراط؟
3. هل تستمر روسيا والصين في الضغط باتجاه تهدئة تُقلّص الهيمنة الأميركية أم ينشغلان في أولوياتهما؟
4. ما موقف دول الخليج التي تمشي على حبل مشدود بين الالتحاق بالمشروع الأميركي والتخوف من الرد الإيراني؟
لكن السؤال الأعمق هو: هل يدرك العالم أننا نعيش نهاية مرحلة الردع الأحادي، وبداية مرحلة الردع المتبادل؟ وأن "الشرق الأوسط"، اليوم، لم يعد ملعبًا للقوى، بل فاعلًا في هندسة ميزان عالمي جديد؟
نحو عالم بلا احتكار للرد
عملية "الوعد الصادق 3" هي ضربة صاروخية وأكثر، هي صفعة استراتيجية لمنظومة حاولت، منذ عقود، فرض معادلة ثابتة: أن يُسمح لطرف بالقتل، بينما يُطلب من الآخر ضبط النفس. هذا الزمن انتهى. الآن، كل طرف يحمل سلاحه ويضع إصبعه على الزناد.
ما تغيّر ليس فقط ميزان القوة، بل ميزان الأخلاق ووعي الشعوب وتصورات الرد. أمام أعيننا، تسقط آخر أوراق التفوق "الإسرائيلي"، وتنبت، من تحت الركام، معادلة جديدة: من يهاجم سيدفع الثمن، ومن يستفز سيتلقى الضرب.
العالم تغيّر.. والمقاومة لم تعد مجرد رد فعل، بل مبادرة تغيير جذري في قواعد اللعبة.
و"إسرائيل"؟ أمامها خياران: أن تعترف بتغيّر الزمن… أو تسير بعين مغمضة نحو الحريق.