مقالات مختارة

كريم حداد - صحيفة الاخبار
في ظل استمرارية العنف الكولونيالي بأشكال جديدة، وتكريس السيادة القانونية لخدمة موازين قوى غير عادلة، تعيد الكتابات الراهنة حول الدولة والمقاومة السياسية التفكير في المفاهيم الكلاسيكية مثل الشرعية، السيادة، والعنف.
في ظل استمرارية العنف الكولونيالي بأشكال جديدة، وتكريس السيادة القانونية لخدمة موازين قوى غير عادلة، تعيد الكتابات الراهنة حول الدولة والمقاومة السياسية التفكير في المفاهيم الكلاسيكية مثل الشرعية، السيادة، والعنف. لم تعد الدولة تُفهم بوصفها كيانًا وظيفيًا محايدًا يحتكر العنف المشروع كما صاغها ماكس فيبر، بل باتت تُرى كمجال صراع مشحون بالتاريخ الكولونيالي، والعنصرية البنيوية، والعنف الرمزي والمادي.
تندرج أربعة أعمال أساسية في هذا الحقل ضمن هذا التحول المعرفي:
1. ميشال - رولف ترويو – هاييتي: دولة ضدّ أمة.
2. موسوعة في أنثروبولوجيا السياسة (تحرير نوجنت وفينسنت).
3. العنف والدولة (تحرير كيلينغسورث، سوسكس، وباكولسكي).
4. أنثروبولوجيا الدولة (تحرير شارما وغوبتا).
تتجاوز هذه الأعمال التوصيفات المؤسسية للدولة لتسائل بنيتها الرمزية، وتقوض سردياتها القانونية، وتعيد مركزية المقاومة – المسلحة أو الرمزية – بوصفها لحظة تأسيسية للفعل السياسي في السياق الكولونيالي وما بعده.
أولًا: الدولة بوصفها بنية عنف مستمرة
في تحليل جذري لمسار الدولة في هاييتي، يبيّن ميشال - رولف ترويو في دولة ضدّ أمة كيف أن الدولة نشأت بوصفها أداة للسيطرة النخبوية والانفصال عن القاعدة الشعبية، منذ لحظة الاستقلال وبعدها. فبدل أن تكون الدولة تعبيرًا عن الإرادة الوطنية، تحولت إلى أداة لإعادة إنتاج التبعية الاجتماعية والاقتصادية، متحالفة مع منطق خارجي فوق - سيادي يكرّس الاغتراب.
هذه الرؤية تتقاطع مع أطروحات بارثا تشاتيرجي عن "الدولة المشتقة" في الجنوب العالمي، التي وُلدت بوصفها صورة نمطية مفروضة من المركز الإمبراطوري، وليست تطوّرًا ذاتيًا للمجتمع السياسي المحلي.
في السياق نفسه، يعرض كتاب العنف والدولة أمثلة تاريخية معاصرة عن استمرار الدولة الحديثة – حتّى في الديموقراطيات – في ممارسة العنف كآلية حكم لا استثناء. فالفصل عن الإبادة النخبوية في بولندا، والممارسات القمعية في الصين وروسيا، تظهر أن العنف ليس مجرد انحراف مؤقت، بل وظيفة مركزية في إدارة التعددية وقمع المقاومة.
ثانيًا: المقاومة كفعل تأسيسي للسيادة من أسفل
تشترك موسوعة أنثروبولوجيا السياسة وأنثروبولوجيا الدولة في تفكيك فكرة أن المقاومة الشعبية خارجة عن النظام السياسي. بل على العكس، تُظهر الدراسات المتضمنة – مثل الهيمنة (غافن سميث)، السياسة التحتية (ستيفن غريغوري)، العدالة الشعبية (روبرت غوردون) – أن المقاومة، خصوصًا في أشكالها اليومية، هي تعبير عن ديناميات سيادة بديلة، تتحدى الرواية الرسمية للقانون والشرعية.
في هذا الإطار، يُبرز تحليل تيموثي ميتشل لـ "تأثير الدولة" (The State Effect) في أنثروبولوجيا الدولة كيف أن الدولة ليست وجودًا ثابتًا، بل بناء ثقافي يُنتج رمزيًا عبر البيروقراطية، اللغة، والتمثيل. أما أكيل غوبتا، فيفكك في مقالته حول "حدود الدولة" في الهند، الأشكال المتخيلة التي يُعاد من خلالها بناء الدولة كمصدر شرعي – رغم أنفصالها عن الواقع المُعاش.
هنا تظهر المقاومة – سواء أكانت مسلحة أم رمزية – كفعل يقوم على كشف هشاشة الدولة وإعادة تأسيس مفهوم السيادة من أسفل، من الشعب المهمش.
ثالثًا: الإرث الفكري من فيبر إلى فوكو، ومن فانون إلى كوماروف
تنخرط هذه الأعمال ضمن حوار نقدي ممتد مع الفكر السياسي الكلاسيكي. فإذا كان فيبر قد صاغ مفهوم احتكار العنف المشروع، فإن أعمال هؤلاء الباحثين تُظهر أن هذا الاحتكار في السياقات الكولونيالية والاستعمارية ليس سوى غطاء قانوني لممارسة قمع منظم ضدّ من لا صوت لهم.
يقفز فرانتز فانون إلى الواجهة هنا. ففي كتابه معذبو الأرض، يؤكد أن العنف الثوري هو اللغة الوحيدة المتاحة للمقهور كي يستعيد إنسانيته. وهي فكرة نجد صداها في تحليل ترويو لهاييتي، وفي تصورات أميكلار كابرال حول الكفاح المسلح بوصفه وسيلة لاستعادة السيادة، لا فقط لمواجهة العدوّ الخارجي.
كما تلتقي أطروحات شارما وغوبتا مع ما طرحه جان وجون كوماروف عن إنتاج الدولة لما بعد الكولونيالية بوصفها فضاءً للارتباك القانوني، حيث يُستخدم العنف لا لضبط القانون بل لخلق استثناء دائم (agambenian state of exception).
رابعًا: في شرعية العنف الشعبي المسلح
إذا كانت الدولة تُنتج الشرعية عبر القانون، فمن أين تأتي شرعية المقاومة المسلحة؟ هذا هو السؤال الذي تقلبه هذه الأعمال رأسًا على عقب. فحين تكون الدولة ذاتها أداة استعمار أو احتلال، وحين تصبح أدوات القانون امتدادًا لآلة الهيمنة، لا يبقى إلا الفعل السياسي من خارج هذه الشرعية الشكلية – أي المقاومة المسلحة – لاستعادة السيادة.
يكشف العنف والدولة أن القانون الدولي، والمحاكم الجنائية، ليست دائمًا منابر للعدالة، بل قد تتحول إلى أدوات جديدة لإعادة إنتاج هيمنة الدولة الأقوى. في المقابل، تُظهِر مقالات أنثروبولوجيا الدولة أن أولئك الذين يُقصَون من نطاق القانون (كما عند أغامبين في مفهوم homo sacer) لا يملكون سوى المقاومة لفك الحصار عن حياتهم.
المقاومة بوصفها سياسة التأسيس لا الفوضى
تشترك هذه الأعمال الأربعة في طرح راديكالي: الدولة ليست بنية طبيعية، بل بناء تاريخي مشحون بالقهر، والعنف ليس نقيضًا للسياسة بل لحظة من لحظات تشكلها. فحين تُصادَر السيادة باسم الأمن، وتُجرَّم المقاومة باسم القانون، يصبح الكفاح – حتّى المسلح منه – ضرورة تأسيسية لا فوضى مدمرة.
إن بناء نظرية ما بعد كولونيالية للدولة يتطلب منا أن نبدأ من الهامش، لا من المركز؛ من الحقول المدمرة والمخيمات، لا من قصور الحكم؛ من الذين حملوا السلاح دفاعًا عن أرضهم لا أولئك الذين شرعنوا العدوان باسم القانون الدولي.
هكذا، لا تكون المقاومة المسلحة ضدّ العدوان مجرد حق، بل واجبًا سياسيًا – وأخلاقيًا – لصناعة دولة أخرى: أكثر عدلًا، أكثر صدقًا، وأكثر انتماءً.