نقاط على الحروف

أمعاء نازفة في غزة، وأرواح راعفة، ونفوسٍ عطشى لشمسِ يومٍ بلا انتظار، انتظار غربان السماء التي تحمل حمم الموت، وتلقي بها على أجسادٍ أنهكها الجوع، ورمى بها التعب في مهاوي العوَز، وجعلها كأنّها الأسمال البالية.
لا أحد يستطيع التغاضي عن حجم المعاناة وكمّ الكارثة والمأساة التي تجري على مرأى ومسمع من عالمٍ قرر أن يعين القاتل، كأنّ الصمت لم يعد يشفي غليله، من شعبٍ أراد القتال حتى الرمق الأخير.
ولكن في ذات الوقت إن لم نستطع التغاضي فنستطيع التعالي، خصوصًا من أولئك الذين يعتبرون أنفسهم النخبة، حيث اعتماد خطاب يا ويلنا ويا بؤسنا، هو خطابٌ يحوّله العدو إلى خناجر، يغرسها في ظهر الغزيين ومقاومتهم آخر حصونهم.
ربّى الفلسطينيون أبناءهم على ثقافة الجرح المكابر، وليس ثقافة الوهن والاستصغار، وأذكر في الطفولة كيف كان الآباء يلقنون صغارهم قاعدةً يعتبرونها حاكمة، "كلمتان معيبتان في حق الرجل إن قالهما: تعبان وجوعان"، وهذا لأنهم اعتادوا التعايش مع عصابةٍ نازية، تتعامل مع قهر الفلسطيني قتلًا أو تجويعًا واعتقالًا وتشريدًا وحصارًا مجرد روتين.
إنّ خطاب الضحية لا يؤتي أُكله في الحالة الفلسطينية، لأنّ القاتل هو "إسرائيلي"، و"الإسرائيلي" في عرف العالم يحق له ما لا يحق لغيره، إنّه "شعب الله المختار"، وشعب الاستعمار المختار، المختار للمهام القذرة، نيابةً عن الغرب كما قال المستشار الألماني، وكلما كان أكثر قذارةً كلما حافظ على مختاريته ووظيفته.
وحين نرفع خطاب الضحية وخطاب يا ويلنا ويا جوعنا وبؤسنا، فنحن لا نرفعه في وجه العالم، بل نلوح به في وجه الطرف الوحيد، الذي يحاول وقف المذبحة، ونجعله سيفًا مصلتًا على ضميره وعقله، وهو الفلسطيني المفاوض، الذي تُشهَر في وجهه سيوف الأعداء والأشقاء والوسطاء، فنزيدها بخطاب يا ويلنا سيفًا أشدّ مضاضةً من وقع الحسام المهند.
يعتمد العدو بكل ما أوتيَ من جبنٍ وخِسةٍ ونذالة، سياسة قتل الأطفال والنساء والمدنيين عمومًا، كما سياسة التجويع والتعطيش والحصار، مقابل عجزه أمام مقاومين يستبسلون كأساطيرٍ مجسمة، يخرجون من بين الركام ومن تحت الرماد، كتجسيدٍ حيّ لطائر العنقاء، شعار غزة التراثيّ الأثير، لأنّه يدرك أنّ هذه اليد المؤلمة للمقاومة، ولأنّه يراهن على خطاب يا ويلنا ويا جوعنا، ليتم إشهارها في وجه المفاوض والمقاتل على حدٍ سواء.
فنقوم تحت ضغط الواقع المرّ، وتحت وطأة الجوع والعجز، بالمصادقة على رهان العدو، وأنّ خِسته ونذالته تستحق المكافأة، بإشهار سيوف أمعائنا في وجه من يقاتل ويفاوض من أجل كل فلسطين، ومن أجل إغاثة غزة ووقف مقتلتها، فنصبح جميعًا على طاولة التفاوض، أيدينا فوق أيدي الأعداء والوسطاء والأشقاء، ونضرب بها صمود المفاوض ضربةً واحدة.
حين أطلّ أبو عبيدة، الناطق العسكري باسم "كتائب القسام"، بعد ما يربو على أربعة أشهر من إطلالته الأخيرة، لم يتغاضَ عن الجوع والقهر والخذلان، لكنه كان متعاليًا عن فكرة يا ويلنا ويا بؤسنا، وكان يتوعد العدو بالمزيد من استنزاف جيشه وتهشيمه، وأنّ الوقت إن كان يراهن عليه العدو، فسيعلم أنّ الوقت منّا ولنا.
وقد جمع أبو عبيدة، بين التسامي على الجرح والألم، وبين عقيدة الإصرار والثبات، وأنّ ما عجز العدو عن تحقيقه بالقتل وكل أنواع الجرائم الموصوفة، لن يستطيع تحقيقه بالحصار والجوع، ولن يتمكن من سرقته على طاولة التفاوض.
لذلك لا يجب أن نجعل أمعاءنا مشانقنا، وأن نسلّم للعدو مصيرنا، الذي لن يختلف كثيرًا عن القتل والتجويع والتهجير، ولكن تحت مسمى إنساني، فيمارس العدو جريمته في صمت، وذلك لأنّ جرائمه امتدت لأمعائنا، وأن نجعل من الطرف الوحيد والأحرص على وقف الإبادة خصمًا لنا، ونلوح في وجهه بأمعائنا، ونطالبه بتقديمنا قرابينَ على مذبح الأعداء والوسطاء الأشد بلادة والأشقاء الأكثر تواطؤًا.