مقالات

إذا اعتبرنا أن ارتباط الجنوب السوري جغرافيًّا وميدانيًّا وأمنيًّا وعسكريًّا بكيان الاحتلال، هو سبب الحراك العدائي والغليان الأمني والعسكري الذي تفرضه "إسرائيل" في الجنوب السوري، ولكن ما هي أسباب اللاتوازن الأمني الذي يصاب به الشمال السوري؟ ولماذا سلسلة التفجيرات المشبوهة والغامضة والمتواصلة لمخازن الأسلحة والذخيرة والمتفجرات التابعة للفصائل المسلحة، والمنتشرة أساسًا في كلّ محافظات الشمال السوري والتي كانت، وما زالت، تملك سلطة واسعة في تلك المحافظات؟.
لناحية الجنوب السوري، كلّ المعطيات تشير إلى أرجحية نجاح أبناء السويداء في تكوين منظومة أمنية بعيدة عن التحكم المباشر للسلطة المركزية السورية في دمشق، وما يعزز هذه الفرضية، ما رشح عن الاجتماع الأخير (أمس الخميس) في باريس، بين مسؤولين صهاينة ومسؤولين سوريين، برعاية المبعوث الأميركي إلى سورية ولبنان توم براك، حيث أغلب بنود هذا الاتفاق (غير المعلن رسميًّا حتّى الآن)، تعطي ما يشبه الصلاحية الأمنية والعسكرية لأبناء السويداء، بالإضافة لتقديم المسؤولين السوريين ما يشبه الالتزام، بإنهاء تأثيرها المباشر عبر الأمن العام ووحدات وزارة الدفاع السورية عن تلك المنطقة، مع تعهدها بإبعاد أي تواجد وتأثير ونفوذ ووجود لأبناء العشائر، والذين شكلوا عماد المواجهة الأخيرة ضدّ أبناء السويداء.
هذا لناحية السويداء وبلداتها، أما لناحية القنيطرة ودرعا، فإن التفاهم (غير المعلن رسميًّا حتّى الآن) يتطرّق إلى نزع كلّ الأسلحة المتوسطة والثقيلة من المحافظتين، مع إبداء السوريين عدم تحفظهم بتاتًا، على أي توغل لوحدات "إسرائيلية"، في شرق الجولان المحتل، وحتّى وصولًا إلى عمق درعا، إذا رأى "الإسرائيليون" ضرورة أمنية وعسكرية لذلك.
بالمحصلة، يبدو أن الجنوب السوري بدأ يتحضر للخروج من سلطة حكومة الشرع، ليكون عمليًّا، إذا لم يكن بطريقة علنية، منطقة أمنية عازلة لـ"إسرائيل"، بمحافظاته الثلاث: السويداء ودرعا والقنيطرة.
أما شمالًا، فيبدو أن اليد التركية سوف تتوغل أكثر وأكثر في نفوذها داخل المحافظات السورية الشمالية، وهذا الأمر يمكن استنتاجه من اتّجاهين:
الأول، ورغم عدم إشارة أي طرف لذلك، يتعلق بمروحة التفجيرات المتلاحقة في أغلب مخازن أسلحة وذخيرة ومتفجرات المجموعات المسلحة، التي كانت تعمل في شمال سورية برعاية وبتوجيهات تركية، أو الأخرى التي كانت بعيدة عن نفوذ أنقرة، ومن مسار سلسلة هذه التفجيرات المنظمة والمدروسة وشبه الشاملة، يمكن أن نستنتج أن هناك قدرة أكبر من قدرات المجموعات المسلحة، تعتمد على داتا معلومات استخبارية موثوقة وتملك إحاطة كاملة ومعلومات وافية وكافية عن أماكن هذه المخازن وعن محتوياتها، وكأن الموضوع يرمي إلى انتزاع كلّ القدرات التسليحية التي يمكن أن تكون بيد هذه المجموعات، والتي قد تستعملها مستقبلًا، إما لأعمال إرهابية أو لتفجيرات، وإما لأعمال اقتتال وفتنة بين تلك المجموعات.
الاتّجاه الثاني الذي يؤشر إلى توغل اليد التركية في الشمال السوري، أشارت إليه السلطة السورية بنفسها، من خلال طلبها الرسمي والعلني من تركيا، بمساعدتها أمنيًّا وعسكريًّا على مواجهة المجموعات الإرهابية و"داعش" تحديدًا، مع أي فصيل مسلح آخر، يمكن أن يقف بوجه السلطة السورية أو يعرقل جهودها الأمنية بشكل عام، وفي محافظات الشمال السوري بشكل خاص.
من هنا، بين تداعيات حالة الاقتتال بين السلطة السورية والعشائر وبين أبناء السويداء، وبين تمادي "إسرائيل" بتوسيع احتلالها شرق القنيطرة وفي عمق درعا لحجج أمنية واهية، وبين التوغل الأمني التركي في الشمال السوري، أيضًا بحجج دعم السلطة السورية بمواجهة الإرهاب، أو بحجج تأمين الساحة الشمالية وحمايتها من متفجرات وذخيرة المجموعات المسلحة، يبدو أن سلطة الشرع الحالية، اقتنعت بأنها مستعدة لتحكم سورية ناقصةً الشرق والجنوب وقسمًا كبيرًا من الشمال.