نقاط على الحروف

كان يومًا من أيام كانون الأول القارسة في ختام 2013. تأجّل الموعد مرتيْن بسبب عاصفة ثلجية ضربت لبنان. الموعد في الحمرا، في استديو مُتهالك، سقفُه آيلٌ للسقوط، لكنّ كتفيْ زياد الرحباني ما زالتا تحملانه جيدًا. هي عودةٌ الى كواليس مقابلة استطاعت أن تصل الى كلّ العواصم، لأن زياد أسهب واستطرد وأسرّ كثيرًا لموقع "العهد" في حينها.
"من وين أنتِ؟" سألني الأستاذ الكبير. أجبتُه "من شمسطار". ردّ: "كم ترتفع عن سطح البحر؟". ساد الصمت. سؤالٌ لم يُرادوني مرةً ولا حتى في مادة الجغرافيا في المدرسة، غير أن زياد يطرح ما يخطر في باله فجأة. بدأت الجلسة الطويلة، لم تكن حوارًا بل دردشة مليئة بالحكايا والذكريات وعلى طبيعته الى أقسى حدّ. ربّما لأن لا وجود لكاميرا تلفزيونية، ربّما لأن آلة التسجيل تشبه تلك التي يستخدمها في تأليف النوتات التي تطرأ على باله، هكذا قال لي.
يستهلّ زياد الحديث عن الطقس "العاطل" ومُبالغة اللبنانيين في التعاطي معه، ثمّ يُعرّج الى الطعام بلا مقدمات أو مناسبة تُذكر في سياق المقابلة، ليقول "ما بعرف أمي كيف بتتعشّى كل يوم زعتر وحرّ وخبز معاكس بِقْدر أسمع أرشتو ع تاني غرفة".
طيلة المقابلة، كان زياد ناقمًا كثيرًا على الإعلام اللبناني. سخر منه قائلًا: "هو وصفة للديمقراطية وحرية التعبير". لكن رغم أسلوبه الثائر والرافض لكلّ الأخطاء في البلد، كان يتحضّر في ذلك الوقت لتأسيس إذاعة يبثّ عبرها خواطره وأفكاره وطروحاته. كان يُبدي تعلّقًا كبيرًا بالراديو رفيقه في السيارة، ورفيق والدته صباحًا، هكذا أسرّ. وكأنّه يريد أن يقول إنه يرفض الانجرار وراء ما يراه كثيرون تطوّرًا في عالم الميديا ومواقع التواصل الاجتماعي على اختلافها، التي نأى بنفسه عنها الى آخر يوم في حياته. وفي كلّ الحديث، يُشير الى أنه ما زال يعتمد على خطّ الهاتف الأرضي لأنه بعيدٌ عن التنصّت "الإسرائيلي" (حينها).
علّق زياد آماله على مشروع الإذاعة، عبّر عن ذلك صراحة مُستحضرًا تجربة "العقل زينة" على إذاعة صوت الشعب. كان يسرد على هامش المقابلة، في استطراداته المتكررة، كيف قصد الرئيس نبيه بري للغاية وأنه وُعد من قِبله باستعارة جزء من موجة مرخّصة لإذاعة يمتلكها ليبثّ عبر أثيرها ما يريد من برامج له، بمعدّل 4 ساعات صباحًا و4 ساعات مساءً. تصوّرٌ انتظر تطبيقه وقال لي وقتها "هل تستطيعين العمل معنا في الإذاعة في قسم الحوارات؟". عرضٌ مباغت قد يكون طموحًا لأيّ صحافي مُبتدئ أو مُخضرم إذا كان العارض زياد.
يسترسل الفنان الكبير في المقابلة أيضًا وأيضًا. يقول "معليش لو بدي استطرد". يُكمل ويتوقّف عند فساد لمَسَه في المعهد العالي للموسيقى في مرحلة التسعينيات وتدخّل أقطاب السياسة فيه. وبمناسبة السياسة، يستذكر كيف ذهب ليلًا مع أمّه السيدة فيروز الى السيدة نازك الحريري لتعزيتها بالرئيس رفيق الحريري بعيدًا عن الأضواء، لأنها لا تذهب إلّا بعد انتهاء مراسم العزاء، هذه عادتها.
المقاومة والسيد يستحوذان على مجمل حديث زياد. يوضح أنه كان موعودًا من المعنيين في حزب الله بلقاء سماحة السيد حسن نصر الله. ينتظر اللقاء بفارغ الصبر كما الخطابات التي يواظب على الاستماع إليها، ولو فاته خطاب يبحث عنه لاحقًا. في الدردشة، يفيض زياد بعد. يدعو بأن يحفظ الله السيد، ويعرب عن ثقته المُطلقة بالمقاومة أينما حطّت رحالها على الحدود مع فلسطين أو في سورية أو في جبهات ثانية. وفي هذه اللحظة، كشف كم أن السيدة فيروز تحبّ السيد. جملةٌ استدعت ثورة تعليقات من رفاق اليسار وأخصامه من اليمين، وحربٌ شعواء على مكانة أمّه في لبنان والعالم العربي.
3 ساعات كانت مدة المقابلة. تجاوز زياد الاتفاق بتسجيل ساعة من الحوار معه. أراد ذلك بنفسه. يُطلق موقفًا من هنا، ثمّ يستعيد قصّة من سنوات نضاله وحركته. آنذاك، كان قد تفرّع للكتابة مجدّدًا في صحيفة الأخبار على قاعدة أن الكتابة وسيلة للتعبير بلا قيود أو مشقّة وأسهل بكثير من تأليف المسرحيات، إلّا أنه سرعان ما توقّف عن ذلك.
بعد أسبوع على المقابلة، تواصلتُ مع زياد مُستفسرةً عن رأيه في الخضّة التي أحدثتها. أجابني: "تمام تمام بدنا نحكي بس أفضى". عقب ذلك، انهالت عليه اللقاءات الإعلامية وانشغالاته الفنية والسياسية ولاحقًا ساءت صحّته.