اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي ميسي يخرج مصابًا في مباراة إنتر ميامي ضد نيكاكسا المكسيكي

مقالات

الخطاب المسؤول في زمن الاستقطاب: قوة الموقف تعزيز لمنطق الدولة
مقالات

الخطاب المسؤول في زمن الاستقطاب: قوة الموقف تعزيز لمنطق الدولة

48

في لحظة مفصلية من تاريخ لبنان، وسط تزايد الضغوط الخارجية وانكشاف الداخل على انقساماته، أطل الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، بخطاب (18-7-2025) يتجاوز الإطار التعبوي الضيق، ليُعيد ضبط البوصلة الوطنية في مواجهة مشروع أميركي–"إسرائيلي" يتلطّى خلف شعارات "نزع السلاح" و"الاتفاق الجديد". لم يكن الخطاب موجّهًا حصريًا إلى جمهور المقاومة، بل خاطب الدولة، شركاء الوطن، والرأي العام الدولي، في مسعى لتثبيت سردية وطنية بديلة تعيد الاعتبار إلى منطق المقاومة بوصفها خيارًا تاريخيًا واستراتيجية دفاعية لا غنى عنها.

اللافت أن الخطاب لم يأتِ في سياق احتفالي أو استعراضي، بل جاء في توقيت ضاغط تتكثف فيه التهديدات الأميركية–"الإسرائيلية"، وتتفاعل فيه محاولات فرض توازنات داخلية جديدة تُضعف موقع لبنان في المعادلة الإقليمية. ومن هنا، لم يكن الخطاب ردًّا ظرفيًا، بل محطة استراتيجية تواكب تحديات المرحلة برؤية شاملة، تجمع بين قراءة الماضي، وتحليل الحاضر، واستشراف المستقبل.

الشرعية التاريخية كمرتكز للهوية الوطنية

استهلّ الخطاب باستدعاء عمق المقاومة التاريخي والقيادي، من الإمام الصدر والإمام الخميني إلى السيد عباس الموسوي والسيد حسن نصر الله، واضعًا السرد في سياق وطني–ديني–اجتماعي، يربط المقاومة بتكوين لبنان الحديث. هذه المقاربة لا تمنح السلاح شرعية ظرفية فحسب، بل تؤطره في وجدان جماعي، يجعل الطعن فيه أشبه بإنكار لحقبة تأسيسية من الهوية الوطنية اللبنانية. فالمقاومة ليست ردّ فعل طارئًا، بل مسارٌ ممتد صاغته التضحيات، وحمى لبنان من الذوبان والهيمنة.

الواقعية كمنهج في المكاشفة والمسؤولية

تجلّى عنصر القوة الثاني في صدقية الطرح. لم ينكر الشيخ قاسم أن المقاومة لم تتمكن من وقف العدوان "الإسرائيلي" الأخير منذ اللحظة الأولى، لكنه أدرج هذا الأمر ضمن منطق "الردع بالتراكم"، مؤكدًا أن مجرد التوصّل إلى وقف إطلاق النار من دون تقديم تنازلات كان بحد ذاته إنجازًا. هذه الواقعية تعزّز من صدقية الخطاب، وتحوّله إلى منصة صادقة يمكن البناء عليها سياسيًا.

تفكيك مشروع "الاتفاق" وفضح نواياه

تعمّق الخطاب في تحليل خلفيات المشروع الأميركي المطروح، كاشفًا أنه لا يهدف إلى السلام أو الاستقرار كما يُسوَّق، بل إلى تجريد المقاومة من سلاحها مقابل وعود مائعة لا تُلزم العدو بشيء. وهنا يتحول الخطاب من موقف دفاعي إلى مبادرة هجومية، تفضح النوايا وتقدّم قراءة معمّقة لمخاطر الانصياع لهذه الطروحات.

تعزيز الموقف الرسمي

لم يكن الموقف الحازم الذي عبّر عنه الشيخ نعيم قاسم مجرّد تأكيد جديد على تمسّك حزب الله بخيار المقاومة ورفض المسّ بسلاحها تحت أي ظرف، بل ارتقى الخطاب إلى مستوى أعمق، إذ شكّل دعامة للموقف الرسمي اللبناني في مواجهة الإملاءات الأميركية–"الإسرائيلية". فقد منح الخطاب الدولة اللبنانية قدرة إضافية على شرح تعقيدات المشهد والقيود التي تحول دون الاستجابة لمطلب نزع السلاح.

هذا الموقف يتيح للدولة أن تضع "ضيفها" الأميركي أمام معادلة واضحة: أن أي بدائل عن خيار المقاومة، كما تُطرح في سياق "الاتفاقات الجديدة"، لن تحقق الاستقرار المنشود، بل قد تفتح الباب على تهديدات أكبر. لا سيما وأن التجارب السابقة أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن الضمانات الأميركية غالبًا ما تنهار عند أول اختبار جدي، تاركة لبنان مكشوفًا في مواجهة الخطر "الإسرائيلي" والارهابي.

لكن فعالية هذا التثمير السياسي لخطاب المقاومة، وبناء موقف رسمي وازن انطلاقًا منه، لا تتأتى من مضمون الخطاب وحده، بل من توفر إرادة سياسية واعية، وجرأة مسؤولة تتقدّم على منطق المسايرة. فحين تلتقي صلابة المقاومة مع وعي الدولة ومصالحها الوطنية العليا، يصبح الموقف اللبناني أكثر اتزانًا وقدرة على الصمود في وجه الضغوط، وأكثر أهلية لطرح بدائل سيادية تُبنى على التفاهم الداخلي لا على الاستقواء بالخارج.


معادلة دفاع تفرضها المخاطر

واحدة من أهم الرسائل التي حملها الخطاب هي تأكيده أن السلاح ليس بديلًا عن الدولة، بل تدخل في ظل غيابها، وأن المقاومة جاهزة للبحث بما يخدم لبنان ويعزز أمنه واستقراره. هذه الرسالة توفّر غطاءً وطنيًا–دستوريًا للسلاح، وتفتح الباب أمام نقاش عقلاني حول استراتيجية دفاع وطنية تُبنى على الشراكة لا على الإقصاء.

خطاب يتّسع للجميع لا يتقوقع على نفسه

على الرغم من الحزم الذي ميّز الخطاب، إلا أنه تضمّن دعوة صريحة إلى كل المكونات اللبنانية، بما فيها تلك المعارضة للمقاومة، للانخراط في تفاهم وطني ما بعد العاصفة. هذه الدعوة تحمل بعدًا توحيديًا نادرًا، وتشير إلى وعي سياسي بأهمية اللحظة، وحرص على تحويل السجال حول السلاح من نزاع داخلي إلى فرصة لإعادة بناء العقد الوطني.

بنية متماسكة: من التاريخ إلى الدولة

ما يجعل هذا الخطاب نقطة تحوّل، ليس مضمونه فقط، بل هيكليته أيضًا. فالسردية تتدرّج بانسياب من التاريخ إلى التهديد، ومن المقاومة إلى الدولة، ومن التضحيات إلى صياغة بديل وطني متماسك. إنه خطاب لا يكتفي بالرفض، بل يقترح طريقًا واقعيًا للخروج من المأزق، دون التنازل عن مقومات الكرامة والسيادة.

في الختام، يمكن اعتبار هذا الخطاب وثيقة سياسية دفاعية وهجومية في آن معًا. فيه قراءة شجاعة للمخاطر، عرض شفاف للإنجازات، ومبادرة نحو صيغة تفاهم لا تُبنى على الاستسلام، بل على الصمود. وفي زمن تتنازع فيه السرديات، يأتي صوت أمين عام حزب الله ليقول: لبنان لا يُحمى بنزع المقاومة، بل بالتكامل بينها وبين الدولة وبعبارة أخرى، لا على قاعدة الإلغاء، بل على قاعدة التكامل والتشارك.

الكلمات المفتاحية
مشاركة