مقالات

ما بين الرُّكَب القوية والهشّة.. قراءة في جلسة العار
على هامش جلسة الحكومة.. مجموعة من الملاحظات والتساؤلات
"التاريخ يرجم ولا يرحم". حبّذا لو يُكرّر بعض السياسيين في لبنان هذه العبارة لأنفسهم كي يُجنّبوها وصمة العار. من منّا لا يذكر رئيس الجمهورية الأسبق إميل لحود حين أقفل الهاتف في وجه وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت، بعد أن قال لها: "إنّني لست بوارد التفريط بأيّ شبر من أرض بلدي"، وهكذا حافظ لبنان على مساحة 10452 كيلو متر مربع من أرضه. لم يَخَف الرجل من اتخاذ موقف تاريخي، واجه الولايات المتحدة الأميركية دون خوف أو قلق، فتحوّل إلى أيقونة في الصمود والمواجهة وإنقاذ لبنان من الشرّ الأميركي.
تجربة لحود الوطني صاحب "الرُّكب" القوية، يفتقدها لبنان اليوم. سياسيون يملكون ركبًا هشّة، لم يصمدوا أمام مندوب أميركي وليس وزير خارجية، أعني توم براك. الأخير وقف من على منبر قصر بعبدا في الزيارة الأولى ينضح إيجابية ويوزّع ابتسامات يمنة ويسرة، فهو يعلم "البير وغطاه"، ويعلم أنّه سيكون لبلده ما تُريد. ثمّة حكومة باعت "شرف لبنان وكرامته" بكرسي، ومنصب وزاري. لم يتكبّد الزائر الأميركي عناء ليُقنع من يحاورهم بالسير بما تريد أميركا، فكان لواشنطن و"إسرائيل" ما يُريدان على طبق من ذهب. اجتمعت الحكومة الثلاثاء، أقرّت ما أسمته "بسط سيادة الدولة"، والبسط هنا المقصود به بسط سلطة أميركا، وبسط الاعتداءات "الإسرائيلية" لتتمدّد. والسبيل: الاستقواء على سلاح المقاومة ورقة القوة الوحيدة في يد لبنان، والعمل على نزعه ليُصبح لبنان بلا يدين يدافع بهما عن نفسه.
جلسة العار التي انعقدت الثلاثاء (5 آب 2025) لم تكن يتيمة، فالتصفيق الأميركي وانشغال الإعلام "الإسرائيلي" بـ"ضربة العمر" والقُبّعة التي رُفعت لسلام، حفّزا اللبناني الباحث عن إشارة إعجاب أميركية، على استكمال المهمة في جلسة الخميس (7 آب 2025)، فكان لأميركا أكثر مما تتمنّى. لم يهمّ الحاضرين رفض مكوّن الطائفة الشيعية مناقشة ورقة برّاك، لم يهمهم انسحاب الوزراء الشيعة جميعهم من الحكومة، ما يضرب ميثاقية اتخاذها لأي قرار. جُل همهم كان إنجاز الـ"إملاء" الأميركية والـ"فرض" السعودي، وبالتالي الرغبة "الإسرائيلية"، فكان القرار بإقرار ورقة الأهداف كما هي دون زيادة أو نقصان لينالوا العلامة الكاملة. أكثر من ذلك، علا التصفيق الحار داخل الجلسة فهم يعلمون جيدًا أنّ شياطين واشنطن حاضرة لتُبلغها بكل شيء.
أمام ما حصل في جلسة أقل ما يُقال فيها إنها جلسة العار، تُسجّل مجموعة من الملاحظات والتساؤلات:
- إنّ الورقة التي تُسمى أميركية هي في الأصل "إسرائيلية" إذا ما نظرنا الى الأهداف والغايات، فهي تحقّق أولًا وأخيرًا مصلحة "إسرائيل" وما طالبت به لعقود من الزمن، وعليه ثمة سؤال مشروع: لماذا ارتضت الحكومة اللبنانية لنفسها مناقشة ورقة أميركية وليست لبنانية؟.
هنا لا بد من التذكير بأنّ الرد الأميركي على الورقة اللبنانية كان بتبديل النقاط وترتيب الأولويات كما تريد كل من أميركا و"إسرائيل"، لذلك باتت البنود الواردة في الورقة اللبنانية شبه "مقلوبة" كأن يتصدّر الطلب الصهيو-أميركي الورقة عبر وضع قضية "بسط سلطة الدولة" ونزع السلاح وما شابه في البنود العليا، ولاحقًا تأتي قضية الانسحاب "الإسرائيلي"، ما يُحقّق مصلحة "إسرائيل" أولًا، لتبقى مصلحة لبنان غير معروفة المصير خاصة وسط غياب أي ضمانة أميركية، ما يعني في هذا الإطار انقلابًا واضحًا على "اتفاق الطائف" وخطاب القسم الذي ألقاه رئيس الجمهورية جوزاف عون، وانقلابًا على البيان الوزاري لحكومة نواف سلام، والأهم الانقلاب على الأولويات الوطنية التي تُحتّم انسحاب العدو الذي لا يلتزم أصلًا منذ لحظة دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، ولا يزال يخرق الأجواء اللبنانية ويضرب حيث يُريد، لا بل يؤدّب الحكومة متى أراد، والشواهد كثيرة، يكفي في هذا الصدد، انعقاد جلسة الحكومة أمس الخميس على وقع اعتداء "إسرائيلي" في كفردان بالبقاع، وقبلها جلسة الثلاثاء التي تزامن الإعلان عن قراراتها على وقع اعتداء بريتال، مع سقوط شهداء خلال الأيام الأخيرة، بينهم طفل. فلماذا ارتضت الحكومة لنفسها تقديم المصلحة "الإسرائيلية" على المصلحة اللبنانية؟!.
- لا شكّ أن الشواهد على مراعاة ورقة براك المصلحة "الإسرائيلية" كثيرة، أبرزها عدم وجود توازن في بنود الورقة الأميركية، فالعصا الأميركية تفعل فعلها عند تخلّف لبنان حيث تنص على العقوبات وقطع المساعدات العسكرية عن لبنان في حال خرقه للاتفاق، أي تبادر الى فعل عملي، بينما يتم الاكتفاء بـ "توبيخ إسرائيل" من جانب مجلس الأمن في حال قيامها بأي "خرق". فأين التوازن في العقوبات؟!. ما هذا الانبطاح التام؟.
- شكّل القرار الحكومي غير الجامع طعنة للبنانيين بشكل عام في وقت يتعرّض فيه لبنان لاعتداءات مستمرّة، كما شكّل خذلانًا واضحًا لطائفة من اللبنانيين، أعني الطائفة الشيعية بأمها وأبيها حيث جرى تهميشها، وهي التي دُمّرت قراها ومنازلها وقدّمت على مذبح الوطن آلاف الشهداء، ولا تزال تتعرّض لكافة أنواع الظلم والاعتداء، ما يجعل القرار استهدافًا لبيئة كاملة وضربًا لصيغة العيش المشترك ووثيقة "الوفاق الوطني" عام 1989، فاستكمال جلسة الحكومة بعد خروج الوزراء الشيعة وكأنّ شيئًا لم يكن، هو ضرب واضح للدستور والميثاق الوطني وصيغة العيش المشترك، وأي قرار تتخذه الحكومة في ظل غياب هذا المكوّن الأساسي هو غير دستوري، ولا يُساوي الحبر الذي كُتب به.
- إن الخطيئة الحكومية بالهرولة لضرب موعد لسحب سلاح المقاومة، دون مناقشته ضمن الاستراتيجية الدفاعية، هو محاولة صريحة وواضحة لإلغاء المقاومة (الحلم الذي يراود البعض) التي ليست خارجة عن الدستور والقانون بل هي ميثاقية ودستورية وهي جزء من دستور الطائف، كما قال الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم. وعليه، أي تعديل يحتاج الى تعديل الدستور والطائف والميثاق الوطني، ولا يُتخذ بقرار في الحكومة، وعلى عجالة، لأن قضية المقاومة استراتيجية تتعلّق بمصير لبنان. فهل يُعقل أن تناقش الحكومة قضية استراتيجية بهذا الحجم من الأهمية عمرها من عمر الاحتلال، ومرّت على حكومات عدّة، وأدرجت في بياناتها الوزارية خلال جلستين خاطفتين، حتى بدت وكأنها تسرق القرارت خلسة؟.
- أعطت حكومة سلام للعدو "الإسرائيلي" صكًّا قانونيًّا -بنظرها- وشرّعت له الإبقاء على استباحة لبنان لأجل غير مسمى، وفي حال لم يُنفّذ الورقة الأميركية، تُعطي "إسرائيل" لنفسها الذريعة لفعل ما تراه مناسبًا بحجة أن لبنان لم يلتزم بما أقرته الحكومة، رغم أنّ لبنان التزم مئة في المئة باتفاق وقف إطلاق النار. فما مصلحة لبنان في إرساء اتفاق ثان؟ ما مصلحة لبنان في التفريط بعناصر قوته ووحدة الموقف الوطني حتى بتنا أمام موقفين في لبنان، موقف رافض للإملاءات الأميركية لتحقيق مصلحة لبنان، وموقف خاضع لها؟
- يشكّل القرار الحكومي ضربًا واضحًا لنقاط قوة لبنان المتمثلة بالمعادلة الذهبية ما يضع أركان لبنان في مواجهة بعضهم البعض، عبر محاولة زجّ الجيش في وجه المقاومة، وهنا من المفيد استحضار تجربة الرئيس لحود عندما كان قائدًا للجيش وتصدّى بداية التسعينيات لقرار مجلس الوزراء إرسال الجيش إلى الجنوب لضرب المقاومين. يومذاك، قيل للحود إن قرارًا سيصدر من المجلس الأعلى للدفاع بضرب المقاومة والمطلوب منك تنفيذ العملية بالتعاون مع القوات الدولية، وأنت غير مسؤول وتصبح رئيسًا للجمهورية بعد عامين، فرفض لحود الأمر، معتبرًا أن فيه ضربًا للبنانيين الذين يريدون العودة إلى بلداتهم، وعندما صدر قرار من المجلس الأعلى للدفاع بضرب المقاومة في الجنوب عام 1993، انسحب لحود من الجيش واعتكف في بعبدات.
كما من المفيد التذكير بتجربة 17 تشرين الأول 2019 عندما طلب رئيس الجمهورية السابق ميشال عون من قائد الجيش ضبط الأمور في الشارع، ورفض حينها الأخير بحجة عدم زجّ الجيش في وجه الشعب، فهل من مصلحة لبنان زجّ الجيش اليوم في وجه الشعب المتمثل بالمقاومة؟.
- تحدّثت الحكومة عن جدولة زمنية لما أسمته "بسط سلطة الدولة" وحصر السلاح، أليس الأجدر بها -طالما هي "قدّ" الحِمل- أن تضع جدولًا زمنيًا لحصر الاعتداءات "الإسرائيلية"؟ أليس الأجدر بها أن لا تكتفي بالتنديد واستنكار هذه الاعتداءات، وأن تنصرف لاتخاذ موقف عملي؟ ماذا فعلت عمليًا؟ هل قدّمت بدائل للبنان؟ هل أوقفت الاعتداءات "الإسرائيلية"؟ هل حمت مواطنيها؟ هل مكّنت الجيش ليصبح قادرًا على الدفاع والمواجهة؟. هل مكّنت أهالي القرى الحدودية من العودة الى قراهم وأعادت إعمار منازلهم المدمّرة؟.
حكومة سلام تفعل العكس تمامًا، تعمل على تجريد لبنان من الشيء الوحيد الذي يبعث على الاطمئنان في هذا الوطن والمتمثل بالمقاومة وسلاحها، وهي تعلم جيدًا أنّ تجربة لبنان الطويلة مع هذا العدو تُبيّن أن هدفه استعماري توسعي، لتأتي قرارات الحكومة بمثابة غطاء لتبلغ "الفرعنة الإسرائيلية" أمدها، وبالتالي لا حرج في القول إنّ من اتخذ القرار هو شريك في العدوان.
- لا يختلف ما أقرته الحكومة في جلستي 5 و7 آب عن اتفاق 17 أيار يوم ارتضت الحكومة اللبنانية لنفسها الذل والعار، فهل يريد نواف سلام جرّ البلد الى حرب أهلية؟ هل يريد تكرار مجزرة صبرا وشاتيلا التي حصلت بعد تسليم الفلسطينيين آنذاك لسلاحهم؟.
أمام فعل الحكومة المتهوّر وما إلى هنالك من المفردات التي تليق بدناءة ما اقترفته، ثمّة الكثير من الأسئلة، التي ربما إجاباتها واضحة تمامًا كوضوح الحقيقة الساطعة: المقاومة حاجة لرد العدوان وليست ترفًا، والمقاومة باقية لأن عمرها من عمر الوطن وأي قرار ضد الوطن تتعامل معه وكأنه غير موجود، والسلام.