اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي لغة الإنكار في زمن المجاعة: سقوط الخطاب "الإسرائيلي"

تحقيقات ومقابلات

حنّ إلى خبز أمه وعاد مستشهدًا 
تحقيقات ومقابلات

حنّ إلى خبز أمه وعاد مستشهدًا 

125

أحداثٌ كثيرة، يخالها العالم محضَ خيال، لكنّها كانت واقعًا عايشوه بكلّ تفاصيله. نروي من واقعهم حكاية من حكايا الأيام الصعبة. عن محمد حجازي ابن بلدة عيترون الجنوبية الحدودية مع فلسطين المحتلة، الذي استشهد في عدوان تموز 2006، حاملًا في جيبه ثلاثة أرغفة من الخبز، وعن أمه، حارسة الصمود، التي كانت عيناها ترقبان البيت كل مساء على أمل أن يعود. عن أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها، وعاد مستشهدًا.

أم محمد التي صمدت في عيترون 22 يومًا من حرب تموز. يوم سقطت الصواريخ على بيوت الجيران. وتهاوت النوافذ. واهتزت الجدران. مسحت على رأس ابنتها البالغة من العمر 20 يومًا بهدوء؛ وبين يديها سبحة لا تكل عن الدوران؛ قائلة: "كل شيء سيمر، وسيعود محمد من الجبهة". 

كانت أخبار أولادها الثلاثة منقطعة عنها وعن زوجها، وكأنها حسبتهم قضوا شهداء، فقد نزح أولادها مع عمهم بداية الحرب، فيما بقي معها ثلاثة آخرون، والتحق ابنها البكر بالجبهة، منخرطًا في العمل العسكري ضد العدو الصهيوني. 

محمد هادئ الملامح، كما تقول أمه، كريم النفس، مطمئن القلب، في وجهه وقار، وفي حديثه أدب. إذا نادى والداه، لبى بلا تأخير أو تأفف. كان قلبه موصول بخيط من محبة. يُعرف بين الناس بأخلاقه. يمشي بخطى واثقة. حاضر لحظة الحاجة.

محمد يحمل المسؤولية. شاب لا يتجاوز عمره العشرين عامًا، مسؤول عن عمله في الزراعة، يعاون والده، يسأل عن إخوته، يوجههم، ويتابع أمورهم. لم يتوان يومًا عن تكليفه، وعن الأعمال العبادية، وقد انخرط بصفوف كشافة الإمام المهدي (عج) باكرًا.

في صغره كان يلاحق أمه كظلّها، ينام على صوت دعائها، يحدثها عن الشهادة، يوصيها بالصبر. 

تخبرنا عن اللقاء الأخير، الذي تصفه بالغريب، وعن آخر اتصال معه، حيث أوصاها بإخوته وخطيبته، وأعلمها أن الحرب ستشتد، وأنه لن يتوانى عن واجبه، وطلب منها احضار المستلزمات الضرورية لإخوته الرضّع، "كان هكلان همن". سألته: "بتعرف يا إمي شو هي الحرب؟"، وهو الذي لم يعايش حربًا قط. فأجابها: "إي ليش بديش أعرف!"، قالت له: "اذا صار حرب قاسية يا إمي بدي ياك ما تتراجع وتقاتل للأخير، أوعى تستلم". ضحك وقال: "هيك بدي ياكِ". 

كانت أم محمد تكنس الرماد من المنزل. وتطهو ما تبقى من العدس والبرغل والمونة. لم يكن الخوف مسيطرًا عليها. ولكنها كانت بين حيرة البقاء في البلدة لعلّ محمد يعود يومًا وتحضنه ولو للمرة الأخيرة، وبين أولادها الصغار الذين لا تعرف عنهم شيئًا. 

أيام مرّت، واشتدت الحرب، و"صاج" أم محمد لم يبرد. ظل رغيفها يسند المجاهدين على الخطوط الأمامية. يمنحهم شيئًا من دفئ البيوت التي تركوها خلفهم. ففي كل رغيف كانت تضع أكثر من الطحين؛ كانت تضع قلبها.

ذات يوم من أيام تموز، بينما كانت تجلس أم محمد في زاوية الغرفة، يعلو صمتها على ضجيج الحرب من خلف الجدران. يأتيها الخبر عن أولادها الثلاثة عبر المذياع، في ذلك الصوت الذي خرج من الجهاز الصغير عبر أثير "إذاعة النور"، يتلو أخبار الحرب والنازحين، علمت أن أولادها الثلاثة مع عمهم في بلدة رميش، "جارة الرضى"، التي يحفظ لها أهالي القرى الحدودية أنها كانت لهم ملتجأً ساعة الشدة، حيث أووا إلى بيوت إخوانهم في رميش، كما يدعوهم أهالي القرى الحدودية، يقاسمونهم طعامهم وشرابهم، برغم الشحّ الذي عانته البلدة طوال أيام العدوان. كأنها أمسكت نبضها، وتوقف الزمن حين نطقت الإذاعة بالأسماء، "اطمأن قلبها".

بات على أبو محمد ترك المنزل والنزوح من عيترون مع عائلته، تركت أم محمد أرغفة الخبز التي حضرتها باكرًا، مع "بقلة الحمص"، ورائها. وكأن القدر عاندها، ومشيئة الله كانت أن لا تودع ابنها البكر. 

غادرت أم محمد مع 12 شخصًا في سيارة واحدة، متوجهين إلى برجا. تذكر أم محمد كيف استقبلها الشاب في برجا، قائلًا: "أنتم لستم وحدكم فقلوبنا بيوتكم". عن نظرة الطمأنينة في عينيه. فالإخوة الحقيقية تُختبر في الشدائد، وقد اختار أهالي برجا أن يكونوا إخوة لا بالطائفة ولا المذهب، بل بالرحمة والإنسانية والكرامة، إخوة في المقاومة. 

أيام مضت، وقلب أم محمد مع ابنها في عيترون. لم تكن تعلم أنه عاد يوم خرجت. وأخذ معه الخبز الذي كانت قد أعدته في ذلك الصباح، قبل أن يرحل إلى حيث لن يعود. حمل في جيبه رغيف عاطفة ودفئ لا يتذوقه إلا من يعيش في قلب الأم. 

محمد عندما ابتعد عن المنزل، شعر أن شيئًا ناقصًا، كان قد انتظر لحظة اللقاء، وحن إلى خبز أمه وقهوتها، ولمستها.

كان يقف أمام المجاهدين متباهيًا: "أنا أمي مجاهدة معي، وأنا أقف بقوة أمي، وأعشَقُ عمرِي لأني إذا مُتُّ أخجل من دمع أُمي". محمد ربما خجل من أن تكون أمه وحيدة في حضرة الحزن، خجل من دمعها، من نظرة الغياب في عينيها. ولكنه ذهب إلى طريق لا يسلكه إلا الأبطال.

وحين عادت أم محمد إلى عيترون تسأل: "وينو محمد". تجمدت الكلمات في الهواء. وضعت يدها على صدرها كأنها تحاول أن تمنع قلبها من التبعثر. كيف تسقط السماء فوق قلب أم؟ 

تستجمع كل ما تبقى من عمرها تسأل: "استشهد؟". يجيبها أبو محمد: "الله أعطى والله أخد". بلكنتها الجنوبية تقول: "أني كنت عارفي ما رح يرجع.. بس كنت ناطريتو". ثم شهقت شهقة قصيرة، كأنها حاولت أن تخفي وجعها عن الكون، ولكن الكون بكى. 

محمد عاد مستشهدًا. عاد لكن ليس كما كان يعود في المساء بثياب مغبرة من العمل. عاد يحمله البياض على الأكتاف، تستقبله الأرض بزغاريد الأمهات، عاد مستشهدًا، تهدهده الرياح، فبكت أمه دمعتين ووردة. 

وأم محمد التي تذوقت طعم الشهادة للمرة الأولى عام 2006، لم تكن تعلم حينها أنها ستتذوقه للمرة الثانية عام 2024، بابنها علي الذي أكمل مسيرة أخيه حتى الشهادة.

الكلمات المفتاحية
مشاركة