تحقيقات ومقابلات
الشهيد سليم حريصي.. من تراب الجنوب إلى طريق القدس
درجتان على طريق القدس.. سيرة شهيد رأى الوعد ومضى
يولدون أحرارًا، ويكبر في وجدانهم أن الدفاع عن الوطن شرف لا يُساوَم وواجب لا يُؤجَّل، فيمضون إلى مصيرهم بوعي المؤمن وثبات العارف. هذه سيرة شهيد خرج من تراب الجنوب، وتربّى في حضن الدعاء، وسلك طريقه بخطى ثابتة تجمع العلم إلى الجهاد. حين اكتملت الدرجات، في لحظة الصفاء الأخيرة، ارتقى شهيدًا على طريق القدس، فغدت الشهادة تاج المسير، وتحولت العظمة إلى صلاة خُتمت باليقين.
في حديثٍ لموقع "العهد" الإخباري، يروي أبو جعفر حريصي سيرة أخيه الشهيد سليم أحمد حريصي، والملقب بـ"صادق"، شهيدًا على طريق القدس. هو من مواليد بلدة طلوسة الجنوبية، في الثالث عشر من أيلول/سبتمبر 1996، سيرةً تتقاطع فيها العبادة مع الجهاد، والعلم مع البندقية، والرؤيا مع الشهادة.
يستهل أبو جعفر حديثه بالقول: "في السابع والعشرين من أيلول، كان سليم يشارك في تشييع أحد الشهداء حين تساقطت أطنان المتفجرات على حارة حريك. يومها، لم يغادر المكان، وبقي حتّى نهاية المراسم، كأن الوداع عنده واجب لا يُؤجَّل، حتّى تحت النار". يضيف: "في ظهيرة اليوم التالي، وحين بلغه نبأ استشهاد سيد شهداء الأمة سماحة السيد حسن نصر الله، خنقته العبرة، وكاد القهر أن يغلبه، لكنّه قال بكلمات تختصر وعيه وإيمانه: "كل العالم زعلانة عالسيد، وأنا كمان، بس بنفس الوقت فرحان.. أكيد قاعد بين يدي صاحب الزمان (عج)، وعم يتخطّط لشي كبير"".
صاحب الزمان.. صاحب أمره
يتوقف أبو جعفر عند العلاقة الخاصة التي ربطت الشهيد بصاحب العصر والزمان (عج)، قائلًا: "كل من عرف "صادق" عن قرب، يعرف أنّ الإمام كان حضورًا دائمًا في حياته. كان يربط كلّ تفصيل وكلّ توفيق بدعاء صاحب الزمان. يتوسل إليه في الصغيرة قبل الكبيرة، ويحادثه كأنّه يراه، من دون حجاب بينه وبين وليّ أمره". ويتابع: كان يستشيره في أدق شؤون حياته، ويقول: "سيدي يا صاحب الزمان (عج)، إن كان لي في هذا الأمر خير ومرضاة لله فيسّره، وإن لم يكن فجنّبنيه". إلى أن منّ الله عليه، قبيل شهادته، برؤية وجهه المبارك في المنام.
بين الجهاد والعلم.. اختيار الوعي
عن مسار حياته، يروي أبو جعفر: "بعد إنهائه دراسته الثانوية، فاجأ سليم العائلة بطلب تأجيل دراسته الجامعية لسنتين أو ثلاث. استغرب الجميع قراره، وهو الطالب المتفوق المحبّ للعلم، لكن سرعان ما اتضح السبب: أراد أن يُنهي دوراته العسكرية ليكون جاهزًا للصفوف الأمامية في زمن الحرب". يضيف: "وعدنا جميعًا أنه سيعود إلى مقاعد الدراسة فور إنهاء دوراته، وكان عند وعده. عاد، وأكمل تعليمه، ونال إجازة في علوم الشبكات والاتّصالات، جامعًا بين سلاح المعرفة وسلاح الميدان.
رضا الله من باب الوالدين
يؤكد أبو جعفر أن الشهيد لم يكن يخرج من المنزل إلا بعد الصلاة. يروي حادثة لافتة: كان بيني وبينه موعد عند السابعة صباحًا، وجدته نائمًا فأيقظته على عجل. نهض منزعجًا، فظننت أنه تأفف من التأخير، لكنّه توضأ وبدأ بالصلاة، مع أن الوقت لم يكن وقت صلاة.. لاحقًا، أسرّ لي أنه غلبه النوم عن صلاة الليل والفجر، فقام بقضاء ركعتي الشفع والوتر وصلاة الفجر قبل أن يخرج".
خلال جائحة كورونا، زار الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث مكث قرابة شهرين. استثمر فيها كلّ لحظة في العبادة، متنقلًا بين حرم الإمام الرضا (ع) والسيدة المعصومة (ع)، متمنيًا أن لا تنتهي تلك الأيام التي وصفها بأنها تحليقٌ بين يدي الله".
ويردف أبو جعفر: كان سليم يرى أنّ رضا الله يمرّ عبر رضا الوالدين. لم يرفض لهما طلبًا، وكانت جملته الدائمة: "انتوا ارتاحوا، بس قولوا شو بدكم". كان خدومًا، مزوحًا، ضحوكًا، دائم الزيارة لإخوته، وترك أثرًا لا يُمحى في قلب كلّ من عرفه".
أمانة الدم.. وقدسية التفصيل
عن أخلاقه في الميدان، يقول أبو جعفر: لم يتوانَ يومًا عن الالتحاق بالجبهة، خلال معركة الدفاع المقدس. كان شديد الحرص على مقتنيات العمل، إلى حد أنّ بعض الإخوة استغربوا تشدّده. لم يكن يقبل باستخدام قلم أو كوب بلاستيكي لأمر شخصي من دون براءة ذمة، قبرأيه أنّ كلّ ما في العمل أمانة، دُفع ثمنها دم الشهداء".
درجتان إلى اللقاء
يكشف أبو جعفر رؤيا سبقت الشهادة بشهرين، قائلًا: "رأى سليم في المنام صاحب العصر والزمان جالسًا على درج، وبينهما درجتان فقط. التفت الإمام إليه وابتسم. وصفه سليم وجهه بالقمر، وقال إنه لم يرَ في حياته جمالًا كهذا؛ شامة على الخد الأيمن كحجر فيروز، وابتسامة تردّ الروح.
سأله: "مولاي، هل سأدركك أم أكون قد رحلت؟"
فأجابه الإمام: "ستدركني".
استيقظ سليم فرحًا، وروى المنام لأهله، فقام الوالد بتسجيله بصوته، كأن القلب كان يشعر بقرب الموعد.
الشهادة.. حين اكتملت الدرجتان
مع اندلاع الحرب، نزح مع عائلته، وخدمهم شهرًا كاملًا بعينيه. كان ينام باكرًا، ويستيقظ بعد منتصف الليل للصلاة، ويطلع عليه الفجر راكعًا ساجدًا، داعيًا الله أن يُلحقه بالجبهة. كان كلّما سمع بنبأ شهادة أحد المجاهدين يعتصره الشوق والحنين.. بعد شهرين من الرؤيا، جاء الاستدعاء. وصل إلى حيث أراد.. وفي بلدة مجدل سلم، احتمى في مبنى على بابه درجتان.. نزل الدرجتين، فانفجر الحزام الناري، وتحولت الأبنية إلى رماد.. هناك، في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، ارتقى سليم حريصي شهيدًا بين يدي صاحب الزمان".
بقي جثمانه شهرين، وحين عاد إلى أهله، عاد مقطعًا إربًا إربًا، لا يتجاوز وزنه كيلوغرامًا واحدًا. دُفن وديعة في جنة الإمام الصادق (ع)، بانتظار نقله إلى مثواه الأخير مع رفاقه الشهداء في بلدته طلوسة.
يختم أبو جعفر قائلًا: "درجتان في الرؤيا، تجلّتا بشهرين للعروج، ودرجتان في مكان الشهادة، وشهران فوق الثرى.. فسلامٌ عليه يوم وُلد، ويوم استُشهد، ويوم يُبعث حيًّا".