اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي "العهد" ينشر تفاصيل لقاء الرئيس عون ولاريجاني

نقاط على الحروف

لغة الإنكار في زمن المجاعة: سقوط الخطاب
نقاط على الحروف

لغة الإنكار في زمن المجاعة: سقوط الخطاب "الإسرائيلي"

511

في عالم تتحكم فيه الصورة بالكلمة، وتستطيع لحظة موثّقة بكاميرا أن تهزّ الرأي العام أكثر مما تفعل تقارير مطوّلة، يجد الخطاب السياسي "الإسرائيلي" نفسه أمام مأزق وجودي. فمنذ اندلاع حرب الإبادة على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان الإعلام، لا الدبابات، هو خط الدفاع الأول عن السردية الرسمية "الإسرائيلية". لكن هذا الجدار بدأ يتصدع مع تراكم الصور القادمة من القطاع، وصوت الضحايا الذي يعلو من بين الركام، ما دفع بنيامين نتنياهو، في مشهد لا يخلو من السخرية المرة، إلى إنكار وجود مجاعة أصلاً، واتهام الإعلام العالمي بالكذب ونشر صور "مزيفة".


أولًا: الدعاية كأداة حرب 
إن النظم الاستعمارية والعسكرية تدرك أن إدارة الصورة لا تقل أهمية عن إدارة المعركة الميدانية. "إسرائيل"، بوصفها مشروعًا استيطانيًا مدعومًا غربيًا، بنت سرديتها على أسطورة "الجيش الأكثر أخلاقية"، وحرصت على أن تبقى صورتها لدى الرأي العام الغربي متفوقة على الواقع الميداني. لكن هذه الصورة تتهاوى عندما تتسرب مشاهد أطفال يموتون جوعًا في أحضان أمهاتهم.

خطاب نتنياهو الأخير يندرج في هذا الإطار؛ فهو محاولة لتفريغ هذه الصور من قوتها الرمزية عبر التشكيك في صحتها، وربطها بحماس باعتبارها "مصدر الأكاذيب". هذه الاستراتيجية ليست جديدة، بل هي امتداد لخطاب مستمر منذ بدء الحرب، يتنصل من أي مسؤولية عن الجرائم، ويعيد إنتاج رواية أن الضحية هي الجلاد، وأن الاحتلال يمارس القتل والتجويع "مكرهًا" دفاعًا عن نفسه.

لكن الدعاية تنهار عندما يصبح الواقع أكبر من قدرة أي خطاب على احتوائه. وما يجري في غزة، من تدمير شامل للبنية التحتية، وقتل عشرات الآلاف، وتشريد كامل السكان، ومجاعة موثقة من منظمات أممية، يضع الخطاب "الإسرائيلي" في مواجهة تناقضاته القاتلة.

ثانيًا: الإنكار كأداة بقاء 
يمكن قراءة حالة الإنكار "الإسرائيلية" كعرض لأزمة أعمق في البنية النفسية والسياسية للمشروع الصهيوني. الإنكار ليس مجرد تكتيك إعلامي، بل هو آلية دفاع جماعي، تحمي الذات "الإسرائيلية" من مواجهة حقيقة أنها باتت تُرى عالميًا كقوة استعمارية فاشية.

هنا يجب الربط بين مثل هذه الحالات وبين لحظات الانكشاف الحضاري، حيث تفقد القوة المهيمنة قدرتها على التحكم في صورتها الذاتية أمام العالم. في هذه اللحظة، يتحول الخطاب إلى أداة لإقناع الذات قبل إقناع الآخرين. نتنياهو، وهو يكرر اتهام الإعلام بالكذب، لا يخاطب الغرب فقط، بل يوجه رسالة داخلية للجمهور "الإسرائيلي": "نحن ما زلنا الطرف الأخلاقي". هذا التكرار دليل على أن الصورة الداخلية تتعرض للاهتزاز، وأن القلق من فقدان الدعم الغربي يتفاقم.

ثالثًا: من الإنكار إلى الاغتيال.. إسكات الشهود
لم يكن اغتيال الصحفيين أنس الشريف ومحمد قريقع و3 من طاقم التصوير بعد ساعات من خطاب نتنياهو محض صدفة. فالسلطة التي تخشى الصورة وتشكك في صحتها، تدرك أن أفضل طريقة للتعامل مع الصورة الحقيقية هي منع إنتاجها. الإعلام "الإسرائيلي" نفسه وصف استهداف هذين الصحفيين بأنه ضربة لـ"أبواق حماس" و"مَن شوّهوا صورة إسرائيل أمام الغرب".

هذا الربط بين الإنكار واستهداف الصحفيين يكشف أن الخطاب "الإسرائيلي" يتحرك على جبهتين متوازيتين: الأولى، خطابية، عبر التشكيك والتضليل، والثانية، ميدانية، عبر إسكات من يملكون القدرة على توثيق الحقيقة. المفارقة أن نتنياهو، في خطابه ذاته، قال إنه يريد إدخال صحفيين أجانب إلى غزة "لكن لا يمكن ضمان سلامتهم". لم تمض ساعات حتى كان "الجيش الإسرائيلي" يثبت أنه لن يضمن حياة أي صحفي، بل سيستهدفه متعمدًا.

هنا يصبح الإنكار ليس فقط عملية لغوية، بل مشروعًا متكاملًا لطمس الحقيقة، يبدأ من صياغة الرواية وينتهي باغتيال من يكشف زيفها.

رابعًا: التناقض مع الواقع الغربي
القلق "الإسرائيلي" من تزايد التفاعل الشعبي والرسمي الغربي مع مأساة غزة يفسر هذا الإصرار على الإنكار. فمع تصاعد التظاهرات في العواصم الأوروبية والأميركية، وصدور بيانات إدانة حتى من مؤسسات كانت تاريخيًا أقرب إلى "إسرائيل"، يجد نتنياهو نفسه في موقع دفاعي غير معتاد.

هنا نستعيد قراءة هذه الظاهرة "انهيار الهيمنة الثقافية"، حيث تبدأ المجتمعات الغربية نفسها في التشكيك في الخطاب الذي دعمتْه لعقود. الإنكار إذًا محاولة لإبطاء هذا الانهيار، حتى لو كان الثمن هو الدخول في مواجهة مفتوحة مع الإعلام الدولي.

لكن الأزمة أن هذا الإنكار يتصادم مع بيانات الأمم المتحدة، التي وثّقت استشهاد أكثر من  217 شخصًا، بينهم 100 طفل، بسبب الجوع وسوء التغذية منذ بدء الحرب، ومع تقارير تشير إلى أن مزاعم إدخال "مليوني طن من المساعدات" لا تغير من واقع أن المجاعة مستمرة.

خامسًا: سقوط الخطاب.. عجز الدعاية أمام الصورة
من منظور آخر، فإنه حين تصل الفجوة بين الواقع والرواية الرسمية إلى هذا الحد، تصبح الدعاية عاجزة عن أداء وظيفتها. ما جرى بالأمس من اغتيال للصحفيين، ومن قبلهم عشرات الصحفيين الآخرين، وما تزامن معه من استمرار بث الصور من داخل غزة عبر وسائل إعلام محلية وعالمية، يشير إلى أن السردية "الإسرائيلية" تعاني من "فقدان السيطرة".

"إسرائيل" بنت جزءًا كبيرًا من قوتها الناعمة على قدرتها على التحكم في تدفق المعلومات، لكنها اليوم تواجه انفجارًا في الشهادات والصور والفيديوهات التي تكشف المجازر والمجاعة. وكلما حاولت إنكار هذه الحقائق، كلما بدت أكثر تورطًا في إخفائها، ما يعزز قناعة المتلقي بصدقها.
ما بعد الإنكار

لغة الإنكار التي يستخدمها نتنياهو ليست جديدة، لكنها اليوم تعمل في بيئة معادية لها أكثر من أي وقت مضى. اغتيال الصحفيين، واتهام الإعلام العالمي بالكذب، وإلقاء المسؤولية على حماس والأمم المتحدة، كلها عناصر في معركة سردية خاسرة.

هذه هي اللحظة التي يبدأ فيها الرأي العام العالمي بإعادة تعريف الطرف المعتدي والطرف الضحية، وأيضًا هي لحظة الانكشاف الحضاري التي تدفع القوة المهيمنة إلى ردود فعل هستيرية.

لكن الأخطر أن الإنكار، في زمن المجاعة، لا يعني فقط الكذب على العالم، بل يعني تبرير استمرار القتل والتجويع، وتحويله إلى سياسة رسمية. وفي النهاية، كما تُظهر تجربة كل الحروب الاستعمارية، يسقط الخطاب قبل أن تسقط القوة المادية، لأنه يفقد أهم ما يبرر وجوده: القدرة على الإقناع.
 

الكلمات المفتاحية
مشاركة