نقاط على الحروف
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
لا يمكن فهم العزلة الأكاديمية المتصاعدة لـ"إسرائيل" بوصفها ردّ فعل أخلاقيًا عابرًا على حرب أو مجزرة أو تصعيد عسكري بعينه. فالمقاطعة التي بدأت منذ نهاية انتفاضة الأقصى، ثمّ تسارعت بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، تعبّر عن تحوّل أعمق في علاقة "إسرائيل" بالمنظومة المعرفية الغربية نفسها. نحن أمام مسار تاريخي طويل، تتحول فيه المقاطعة من فعل احتجاجي جزئي إلى قطيعة بنيوية آخذة في التشكل، تمس موقع "إسرائيل" داخل النظام الرمزي والعلمي الذي شكّل أحد مصادر قوتها الأساسية منذ تأسيسها.
من منظور تحليلي قريب، لا تُقرأ هذه الظواهر في بعدها الأخلاقي فقط، بل في علاقتها بالبنى الاجتماعية العميقة، وبالتحولات التي تصيب المجتمعات الغربية ذاتها. فالعالم الغربي لا يعيش اليوم حالة استقرار قيمي أو معرفي؛ بل يمر بمرحلة تفكك تدريجي لمنظوماته الأخلاقية القديمة، وصعود أشكال جديدة من الحساسية السياسية والثقافية. وفي هذا السياق، تصبح "إسرائيل" حالة اختبار: كيان يدّعي تمثيل "الغرب الديمقراطي"، لكنّها تتصرف بمنطق استعماري صارخ لم يعد قابلًا للتبرير داخل الحقول الأكاديمية التي ما زالت، نظريًا على الأقل، تدّعي الالتزام بالأخلاق الكونية.
التحول من الحدث إلى البنية
ما بعد 7 أكتوبر ليس مجرد لحظة تصعيد عسكري، بل نقطة تكثيف لمسار سابق. فالأوساط الأكاديمية الأوروبية، على وجه الخصوص، لم تعد تنظر إلى الصراع "الفلسطيني-الإسرائيلي" كملف سياسي قابل للاحتواء عبر وقف إطلاق النار أو تسويات مؤقتة، بل بوصفه بنية ظلم تاريخي مستمرة. وهذا ما يفسر حقيقة أن إعلان وقف إطلاق النار لم يؤدِّ إلى تراجع المقاطعة الأكاديمية، بل العكس تمامًا: تسارعت وتوسعت، وانتقلت من استهداف الأفراد إلى استهداف المؤسسات.
هذا الانتقال نوعي، لا كمي فقط. فمقاطعة الباحث الفردي يمكن احتواؤها أو تجاوزها، أما مقاطعة الجامعة - باعتبارها مؤسسة - فهي تعني نزع الشرعية عن دورها ووظيفتها داخل الشبكات المعرفية الدولية. وحين تُعلّق برامج التبادل، وتُلغى الشراكات البحثية، ويُقصى الأكاديميون "الإسرائيليون" من مجموعات البحث الدولية، فإن ذلك يشير إلى خلل بنيوي في العلاقة بين "إسرائيل" والنظام المعرفي الغربي.
الجامعات "الإسرائيلية" كذراع للكيان
لا يمكن فهم خطورة هذه العزلة دون التوقف عند طبيعة الجامعات في "إسرائيل". فالجامعات "الإسرائيلية" ليست مؤسسات مدنية منفصلة عن "الدولة"، بل تشكّل جزءًا من بنيتها الصلبة. بعضها سبق قيام "الدولة" نفسها، وأسهم في إنتاج نخبها العسكرية والتكنولوجية، وشارك بشكل مباشر أو غير مباشر في بناء تفوقها العسكري. برامج تخريج طياري سلاح الجو، والبحوث المرتبطة بالأمن السيبراني، والتكنولوجيا العسكرية، كلها أمثلة على هذا التداخل العميق بين المعرفة والقوّة.
من هنا، فإن استهداف الجامعات ليس فعلًا رمزيًا، بل هو مسّ بإحدى ركائز الأمن القومي "الإسرائيلي". فالدولة الحديثة لا تقوم فقط على الجيش، بل على إنتاج المعرفة، وعلى اندماجها في شبكات البحث والتمويل والتعاون الدولي. حين يبدأ هذا الاندماج بالتآكل، تصبح "الدولة" معزولة معرفيًا، حتّى وإن احتفظت بتفوقها العسكري في المدى القصير.
أوروبا: المختبر الأخلاقي للأزمة
تركُّزُ المقاطعة الأكاديمية لـ"إسرائيل" في أوروبا ليس تفصيلًا عابرًا. فالقارة الأوروبية، التي تعيش منذ سنوات أزمة هوية عميقة، تشهد صراعًا داخليًا بين إرثها الاستعماري وخطابها القيمي المعاصر. الجامعات الأوروبية، بوصفها فضاءات لإعادة إنتاج النخب والمعاني، أصبحت ساحة لهذا الصراع.
في هذا السياق، تتحول "إسرائيل" إلى مرآة تعكس تناقضات الغرب ذاته. دعمها غير المشروط من قبل الحكومات يتناقض مع الخطاب الحقوقي والأخلاقي الذي تُدرّسه الجامعات. هذا التناقض لم يعد ممكنًا تجاهله، خصوصًا مع الصور اليومية للعنف، ومع إدراك متزايد بأن "حلول إدارة الصراع" لم تعالج جوهر المشكلة.
التجربة الإيطالية مثال واضح على هذا التحول. فإعلان 11 جامعة حكومية اتّخاذ إجراءات ملموسة ضدّ التعاون الأكاديمي مع "إسرائيل"، بعد حراك واسع شمل مئات الأساتذة والطلاب، يشير إلى أن المقاطعة لم تعد مبادرات فردية، بل تحولت إلى أجندة أخلاقية وطنية. هنا، لا تُطرح المسألة بوصفها موقفًا سياسيًا، بل بوصفها سؤالًا حول شرعية التعاون مع مؤسسات تُتهم بدعم آلة عسكرية متورطة في انتهاكات واسعة.
فشل التكيّف "الإسرائيلي"
إدراك "إسرائيل" لخطورة هذه العزلة لا يعني قدرتها على معالجتها. الأدوات التي تعتمدها -من تعزيز الشبكات مع الجاليات اليهودية، إلى تشكيل فرق لمكافحة المقاطعة، ومراقبة النشاط الطلابي، والتعاون مع شركات محاماة- تعكس منطق إدارة أزمة، لا تفكيك أسبابها. إنها محاولة للسيطرة على الأعراض، دون المساس بالبنية التي تنتجها.
حتّى المؤتمرات التي تُنظم تحت عنوان "مكافحة معاداة السامية" تبدو، في كثير من الأحيان، جزءًا من المشكلة لا الحل. فهي تعيد تعريف المقاطعة بوصفها اضطهادًا، وتتجاهل السؤال الجوهري: لماذا بات عدد متزايد من الأكاديميين الغربيين يرفضون التعاون مع "إسرائيل"؟ هذا الهروب من النقد الذاتي يكرّس العزلة، ويحوّل هذه اللقاءات إلى غرف صدى مغلقة، يتحدث فيها المشاركون إلى أنفسهم.
من المقاطعة إلى القطيعة
الأخطر في المشهد الحالي هو الطابع التراكمي للعزلة. التقارير "الإسرائيلية" نفسها تشير إلى ترجيح استمرار المقاطعة لفترة طويلة، وإلى أن التحركات السياسية وحدها غير كافية لتغيير الصورة السلبية الراسخة. نحن أمام مسار قد يقود، إن استمر، إلى قطيعة معرفية جزئية أو كاملة، تفقد فيها "إسرائيل" موقعها داخل النظام العلمي الغربي.
في منطق التحليل البنيوي، القطيعة لا تحدث فجأة، بل عبر تآكل بطيء للروابط. تعليق برنامج هنا، إلغاء شراكة هناك، استبعاد باحثين من مجموعات دولية، انخفاض التمويل البحثي… كلها خطوات صغيرة، لكنّها حين تتراكم، تُنتج واقعًا جديدًا.
وإذا انتقلنا من التحليل النوعي إلى القراءة الكمية، تتضح ملامح التحول البنيوي بصورة أدق. فوفق المعطيات "الإسرائيلية" الرسمية نفسها، بلغت حالات المقاطعة الأكاديمية في أوروبا نحو ألف حالة حتّى نوفمبر/تشرين الثاني 2025، وهو رقم يعكس تضاعفًا خلال أقل من عام واحد. اللافت هنا ليس الرقم بحد ذاته، بل توزيعه: 57% من هذه الحالات طالت باحثين أفرادًا عبر الاستبعاد من مجموعات بحث دولية، ما يعني عزلًا وظيفيًا مباشرًا داخل شبكات إنتاج المعرفة؛ بينما شكّلت المقاطعات المؤسسية 22%، وهي النسبة الأخطر بنيويًا، لأنها تقطع الروابط بين الجامعات كنظم متكاملة لا كأفراد. أما تعليق البرامج الدولية -من تبادل طلابي وشراكات ما بعد الدكتوراه- فبلغ 14%، وهو مؤشر على تآكل طويل الأمد في إعادة إنتاج النخب الأكاديمية "الإسرائيلية" نفسها. ويكتسب هذا المشهد خطورته القصوى عند ربطه بانخفاض التمويل من برامج إستراتيجية مثل "هورايزون أوروبا"، إذ لا يتعلق الأمر بخسارة موارد مالية فحسب، بل بخروج تدريجي من الفضاء المعرفي الذي يحدد أولويات البحث والتقدم العلمي في الغرب. بهذا المعنى، تتحول المقاطعة من ضغط أخلاقي إلى آلية إعادة تصنيف: "إسرائيل" لم تعد تُعامَل كجزء طبيعي من النظام المعرفي الغربي، بل كجسم إشكالي يُعاد تقييم موقعه ووظيفته داخل هذا النظام.
العزلة بوصفها مؤشر أفول
في النهاية، لا تعبّر العزلة الأكاديمية لـ"إسرائيل" فقط عن موقف من سياساتها، بل عن أزمة أعمق في قدرتها على الاندماج في نظام قيمي ومعرفي يتغير بسرعة. إنها علامة على اختلال العلاقة بين القوّة والمعنى: دولة تمتلك قوة عسكرية هائلة، لكنّها تفقد تدريجيًا قدرتها على إقناع النخب المعرفية بشرعية استخدامها.
من هذا المنظور، لا تبدو المقاطعة الأكاديمية حدثًا هامشيًا أو رمزيًا، بل مؤشرًا على مسار أفول بطيء، يبدأ من الحقول التي تُنتج المعنى، وينتقل لاحقًا إلى الحقول السياسية والاقتصادية. فحين تنسحب المعرفة، تنسحب الشرعية. وحين تصبح الجامعات عبئًا بدل أن تكون رصيدًا، فإن ذلك يشير إلى خلل بنيوي عميق في بنية "الدولة" نفسها.
هكذا، تتحول "إسرائيل" تدريجيًا من شريك في النظام المعرفي الغربي إلى حالة إشكالية داخله، ومن كيان "طبيعي" في هذا النظام إلى استثناء مُربك له. وهذا، في منطق التاريخ الطويل، تطوّر لا يمكن التقليل من خطورته.