اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي على طريق المشاية بين النجف وكربلاء.. وقفة تضامنية مع الإعلاميين الشهداء في غزة

مقالات

مقالات

"ممر زنغزور" وخطورة الاختراق الجيواستراتيجي الأميركي في قلب القوقاز

129

تتميّز اللحظات المفصلية في الصراع الدولي والصراعات الإقليمية، بعدة سمات، على رأسها السيولة السياسية بما تحتويه من تغيرات للمواقف والتحالفات وتدشين أوضاع جديدة ناجمة عن محاولات استغلال بعض القوى للمستجدات لتنفيذ اختراقات جيواستراتيجية لخلق واقع جيوسياسي جديد.

وفي أحدث اختراق جيواستراتيجي، أعلنت أميركا عن عزمها السيطرة على ممر "زنغزور"، وهو من أخطر الممرات وأكثرها أهمية في الصراعين الدولي والإقليمي، حيث وقعت أذربيجان وأرمينيا اتفاق سلام بوساطة أميركية خلال اجتماع في البيت الأبيض مع الرئيس الأميركي، وقد وصف ترامب الاتفاق بالتاريخي، وقد نص الإعلان المشترك بين البلدين على إنشاء الممر تحت مسمى "طريق ترامب للسلام والازدهار الدوليين".

وقد كشف ترامب أن أرمينيا أبرمت شراكة حصرية مع الولايات المتحدة لتطوير هذه المبادرة، ويمكن تمديد الاتفاقية لمدة تصل إلى 99 عامًا.

واللافت أن الملف قد عاد إلى الواجهة قبل الإعلان الرسمي، عن طريق تمهيد من توم برّاك الذي يبدو مسؤولًا ومكلفًا بإعلانات أميركا العدائية، حيث يعمل مبعوثًا إلى سورية وتمكين حكمها الجديد، وهو أيضًا مبعوث الفتنة في لبنان، وليس مصادفة أن يكون سفيرًا أميركيًّا في تركيا، وهو ما يكشف الاستفادة التركية من هذه التحولات والخطط بمختلف الجبهات.

والأمر الخطير هنا هو تحول أرمينيا لشراكة إستراتيجية مع أميركا بعد أن كانت شريكًا موثوقًا لروسيا وإيران، وهنا يستدعي ملف "زنغزور" تدقيقًا وتحليلًا وافيًا لبيان اهميته ودلالاته وخطورة هذه الخطوة الأميركية التي يمكن وصفها بالعدائية، وخاصة تجاه إيران وروسيا.

وهنا يمكن تناول هذا الملف من خلال الأسئلة والاجوبة الآتية:

أولًا: ما هي أهمية ممر زنغزور الإستراتيجية؟    

"ممر زنغزور" هو شريط بري يبلغ طوله 40 كيلومترًا، يمر عبر منطقة "زنغزور" الأرمينية، ويربط أذربيجان بإقليم نخجوان المتمتع بالحكم الذاتي، التابع لأذربيجان إداريًّا، والمنفصل عنها جغرافيًّا.

 وهنا يقع "زنغزور" في نقطة حساسة جغرافيًا، وتعتبر بوابة أساسية لعبور البضائع من آسيا الوسطى إلى أوروبا عبر القوقاز، وبالتالي يتخطّى كونه ممرًا اقتصاديًّا، وينضم إلى قائمة الممرات الجيواستراتيجية، والتي لا تقتصر على الاقتصاد، بل ترتبط بالسيطرة الجيوسياسية، بما يشمل النفوذ العسكري، وتأمين التحالفات، وقطع طرق الخصوم.
    
وهو يتقاطع مع أهداف الولايات المتحدة في آسيا الوسطى والقوقاز والتي يمكن تلخيصها بالآتي:

 - احتواء روسيا: عبر تقليص نفوذها في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي.

 - محاصرة الصين: بإعاقة مشاريع الحزام والطريق التي تمر بالقوقاز وآسيا الوسطى.

 - تطويق إيران: بتقليص دورها كممر بري إقليمي للطاقة والبضائع.

 - إيجاد ممرات بديلة تمر عبر شركاء واشنطن (تركيا، أذربيجان، الهند) نحو أوروبا.

وهناك بعد جيواستراتيجي عسكري، حيث يمكن أن تصبح الممرات نقاط تمركز للأساطيل والقواعد، ما يجعلها أدوات للردع، والتموضع الهجومي، وإذا تم وضع الممرتحت سيطرة قوة عسكرية (مثل الناتو أو قوات مدعومة أميركيًا)، فإنه يصبح منصة متقدمة للعمليات باتّجاه إيران التي تبعد عشرات الكيلومترات فقط، والممر الأوسط الصيني في مشروع الحزام والطريق والذي يمر عبر أذربيجان وتركيا، وكذلك الحدود الروسية في داغستان.

ثانيا: ما هي المستجدات التي استغلتها أميركا؟

كانت الأزمة الأوكرانية هي المتغير الأبرز الذي أثر في الكثير من المعادلات والتوازنات الإقليمية والدولية، وقد تغيَّر الوضع جذريًّا في القوقاز بعد انتصارين عسكريَّيْن لأذربيجان عاميْ 2020 و2023، استطاعت بعدهما أذربيجان بمساعدة تركيا و"إسرائيل" ضمَّ ناغورني قره باغ وسبع مناطق مجاورة كانت تحت السيطرة الأرمينية منذ أوائل التسعينيات، كما اكتسبت تفوُّقًا حاسمًا على أرمينيا في المنطقة.

ومع انشغال روسيا بحرب أوكرانيا، تخلَّت موسكو عن جزء كبير من نفوذها الإقليمي لصالح أذربيجان، ومع العقوبات المفروضة على روسيا وعزلها عن الغرب، أصبحت أذربيجان ذات أهمية متزايدة بوصفها مُورِّدًا عالميًّا للطاقة، بما في ذلك لأوروبا، وذلك عن طريق ممر الغاز الجنوبي، الذي ينقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا عبر جورجيا وتركيا.

وعزَّزت اذربيجان علاقاتها مع تركيا و"إسرائيل"، ووسَّعت حضورها الدبلوماسي والاقتصادي في آسيا الوسطى، ونسجت الحكومة الأذربيجانية علاقات جيدة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي تربطه علاقات تجارية مع باكو منذ ولايته الأولى.

وقد بدأت حكومة علييف في استغلال التحوُّلات الجيوسياسية لتعزيز نفوذها الإقليمي على نطاق أوسع، واكتسبت قوة في مواجهة روسيا، حيث بدأت روسيا بسبب العقوبات في الاعتماد على طرق تجارية بديلة، وخاصة ما يُعرَف بممر النقل الشمالي - الجنوبي، الذي يمتد من موسكو عبر أذربيجان وإيران حتّى موانئ الخليج، وهو ما أعطى قوة تفاوضية لأذربيجان.

وبالتالي شهد القوقاز تراجعا للنفوذ الروسي، وشعرت ارمينيا بعدم كفاية الغطاء الروسي بسبب انشغال روسيا بالحرب، وقد كان الصمت الروسي إزاء سقوط النظام السوري الحليف لموسكو شبحًا ماثلًا امام ارمينيا، يبدو أنه أغراها بالانسلاخ عن روسيا والتعجيل بالتفاهم مع أميركا والغرب.

ثالثًا: ما هي الخطورة على روسيا؟

بشكل مختصر، فإن سيطرة أميركا على الممر وتفعيله، تقلص من أهمية الممرات التي تسيطر عليها موسكو عبر أرمينيا وجورجيا.

وهناك تأثير مباشرعلى النفوذ الروسي في القوقاز، حيث تعتبر روسيا منطقة القوقاز (اذربيجان وارمينيا وجورجيا) جزءًا من مجال نفوذها التقليدي، خاصة أرمينيا التي تعد حليفًا إستراتيجيًا.

وبالتالي، فإن فتح ممر زنغزور بشكل مستقل عن النفوذ الروسي قد يضعف قدرة موسكو على التحكم في التحركات الإقليمية ويقلص دورها في إدارة الملفات الأمنية والاقتصادية هناك.

وهنك تأثير أمني يتمثل في أن وجود قوة عسكرية أو نفوذ غربي (أميركي/ناتوي) في زنغزور يمكن أن يشكّل تهديدًا مباشرًا لأمن روسيا في القوقاز وجنوب روسيا، خاصة في داغستان، كما أن تمركز قوات أو أجهزة استطلاع هناك يتيح مراقبة التحركات الروسية في القوقاز وشمال بحر قزوين.

رابعًا: ما هي الخطورة على الصين؟

للوقوف على معرفة الخطورة المباشرة على الصين ينبغي الإشارة إلى الإستراتيجية الصينية العامة التي تعتمد على التجارة وعلى تنويع الممرات لعدم الارتهان إلى ممرات بعينها تحسبًا للطوارئ الدولية، وبالتالي فإن الصين تعتمد على "شبكة ممرات متعددة" لوصول تجارتها الخارجية، وأهمها:

 - الممر الشمالي: عبر كازاخستان وروسيا ثمّ أوربا.

 - الممر الأوسط: عبر كازاخستان-أذربيجان-تركيا ثمّ أوروبا.

 - الممر الجنوبي: عبر قيرغيزستان-أوزبكستان-إيران-تركيا ومنها إلى أوروبا.

وقد اشعلت أميركا عدة صراعات في محيط الطرق التجارية الصينية مثل صراع قرغيزستان وطاجيكستان في السنوات الأخيرة والذي يمثل تهديدًا حقيقيًا لاستقرار ممرات الحزام والطريق في آسيا الوسطى، ويؤثر على قدرة الصين والدول المجاورة على الاستفادة الكاملة من هذه المشاريع. 

ومع تأثر الطرق المارة عبر روسيا وإيران بالعقوبات، يأتي ممر زنغزور كأحد الإستراتيجيات في منافسة الحزام والطريق، حيث ينافس بشكل مباشر الممر الأوسط، لصالح محور أنقرة-باكو-غرب أوروبا.

كما يمكن الربط بين ممر زنغزور والممر الهندي، وهو المشروع الأميركي المنافس لمشروع الحزام والطريق الصيني، والذي يربط الهند بالخليج، ثمّ عبر السعودية والأردن و"إسرائيل" إلى المتوسط، وصولًا إلى أوروبا.

ويمكن أن يؤدي دمج زنغزور مع الممر الهندي إلى خلق شبكة بديلة تربط جنوب آسيا بأوروبا عبر تركيا، مما يعزز نفوذ واشنطن وشركائها ويضعف بدائل الحزام والطريق.

وإذا سيطرت واشنطن على زنغزور، يمكنها قطع أو تقييد مرور البضائع الصينية أو فرض شروط مرور، أو رسوم جمركية ترفع من أسعار البضائع الصينية وقدرتها التنافسية.

وهناك أثر جيوسياسي طويل المدى يتمثل في تداعيات تضييق الخناق على بكين في آسيا الوسطى، والتي تجعل دولًا مثل كازاخستان وأذربيجان أقل حماسًا للربط التجاري بالصين.

خامسًا: ما هي الخطورة على إيران؟

تعد الخطورة على إيران من تأثير هذا المشروع خطورة مركبة ومضاعفة، لأنها تشمل بعدًا اقتصاديًا وتهديدًا أمنيًا مباشرًا بتواجد العدوّ الأميركي على بعد عشرات الكيلو مترات فقط من الحدود، ومع الوجود الأميركي في الخليج والعراق، يمكن الحديث هنا عن تطويق لإيران عن طريق الضغط من الشمال والجنوب.

وقد قابلت إيران الخطوة بما يليق بها من خطورة، فقد أعاد مستشار قائد الثورة الإسلامية الإيرانية في الشؤون الدولية علي أكبر ولايتي التذكير بالموقف الإيراني الثابت برفض إنشاء ما يسمّى بـ "ممر زنغزور"، مشيرًا إلى أن سبب هذا الرفض يعود إلى أن هذا الممر يغيّر الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، ويبدّل الحدود، وقد صُمم في الأساس من أجل تقسيم أرمينيا.

وقد أكدت إيران جديتها سابقًا عندما أصرت تركيا وأذربيجان على تنفيذ هذا المشروع، حيث نفذت القوات المسلحة الإيرانية، سلسلة من المناورات العسكرية في شمال غرب البلاد، في إشارة واضحة إلى استعداد إيران وجديتها لمنع هذا الإجراء.

ورغم محاولة إيران تخفيض التوّتر مع اذربيجان التي تقيم علاقات وطيدة مع الكيان "الإسرائيلي"، إلا أن هناك حربًا على النفوذ التقليدي الإيراني في اذربيجان بما في ذلك علاقات إيران التاريخية مع إقليم ناخجيوان، الجيب الأذربيجاني المحاذي للحدود الإيرانية من جهة الغرب.

وفي مارس/آذار 2025، دشَّنت تركيا وأذربيجان خط أنابيب غاز جديدًا يربط ناخجيوان بشبكة الغاز التركية، مما قلَّل من اعتماد الإقليم الذي دام لعقود على الطاقة الإيرانية.

وهذا التحوُّل لن يقتصر على تقليص دور إيران في ممرات الطاقة فقط، بل وفي نصيبها من التجارة الإقليمية أيضًا، حيث كانت لوقت طويل ممرًّا للبضائع التركية المتجهة إلى آسيا الوسطى، بسبب الحصار الاقتصادي التركي لارمينيا والاضطرار للمرور من إيران للوصول إلى قزوين وآسيا الوسطى.

كما توجد مخاوف أعمق من استخدام أذربيجان كنقطة انطلاق لهجوم عسكري "إسرائيلي" في حال نشب صراع جديد بشأن برنامجها النووي.

ويوجد بعد داخلي أمني يتمثل في وجود أقلية كبيرة من الأتراك الآذر في إيران تُقدَّر بنحو 20 مليون نسمة، وهو ما يعادل تقريبًا رُبع السكان في البلاد، وهي تتركَّز في شمال غرب البلاد، ومع تبلور دور أكبر لأذربيجان وتركيا، ووجود المؤامرات التي تغذّي النزعات الإثنية والتاريخية قد تحدث فتن انفصالية.

وباختصار، فإن الممر "يشكّل تهديدًا إستراتيجيا" لإيران، إذ يقطع تواصلها المباشر مع أرمينيا، التي تُعد منفذها الوحيد نحو أوروبا الشرقية، ويعزز الوجود "الإسرائيلي"  على حدودها عبر أذربيجان، ويخلق نقطة تموضع أميركية مباشرة على حدود إيران.

الكلمات المفتاحية
مشاركة