عربي ودولي

"حققنا بالفعل تقدمًا كبيرًا"، مقطع مقتبس من تعليق دونالد ترامب على محادثاته مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين الذي بادل الإيجابية بالإطراء قائلًا: "لو كان ترامب رئيسًا لما حصلت الحرب في أوكرانيا".
فبعد أن وصلت العلاقة بين الدولتين العُظميين إلى أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة، أنعش برد ألاسكا دفء العلاقة بين الزعيمين في قمة ما زالت نتائجها غير محسومة، تتفاوت تقديرات تقييمها ما بين التوظيف الشكلي في سياستي موسكو وواشنطن الداخليتين، إلى تحقيق بعض المصالح الثنائية المشتركة، أو قد يترتب عليها تحديد مسارات مصير العالم إقليميًا ودوليًا.
إلا أن الواضح من لغة الجسد وتقييم الخبراء ومراكز الدراسات ووسائل الإعلام الغربية والروسية هو أن الرجلين قد التقيا كصديقين قديمين.
والمجاملات أكثر من أن تُحصى بين الزعيمين، ومنها نفي ترامب لكثير من الاتهامات التي وجّهها الغرب الجماعي وإدارة سلفه الديمقراطي بايدن للزعيم الروسي، ومنها قوله: "الرئيس بوتين يعرف أن الأحاديث عن تدخل روسيا بانتخاباتنا مجرد تلفيق، وآمل العمل بشكل مشترك مع موسكو".
الزعيم الأميركي قيّم لقاؤه ببوتين بعشرة على عشرة على مقياس من 1 إلى 10. كما سارع مدير الاتّصالات في البيت الأبيض إلى وصف التقارير الإعلامية حول فشل محادثات بوتين وترامب بأنها "مزيّفة تمامًا".
وأشار ترامب خلال محادثاته مع بوتين إلى الإمكانيات الاقتصادية الكبيرة بين البلدين، ما كان محط اهتمام ممثل الرئيس الروسي الخاص للتعاون الاقتصادي مع الدول الأجنبية كيريل دميترييف، المسؤول عن الصندوق الاستثماري السيادي الروسي.
وبحسب كلام ترامب، فإن الاتفاق تم حول نقاط متعلّقة بالصراع في أوكرانيا مع توفر فرصة جيدة للتوصل إلى اتفاق حول بقية النقاط. فالـاتفاق ليس كاملًا ويحتاج إلى تواصل بدأه ترامب مع قادة الناتو لإقناعهم بأن بوتين يريد إنهاء الصراع، متمنيًا استمرار الحوار للتوصل إلى خواتيم مرضية. وجاء في تصريح ترامب عقب المباحثات التي تمت بصيغة 3+3: "تمكّنا من الاتفاق على العديد من النقاط، وبقيت بعض البنود التي لم نتوصل فيها إلى اتفاق بعد، من بينها نقطة واحدة ربما تكون الأهم، لكن أعتقد أن لدينا فرصة جيدة لتحقيق ذلك". فالنقطة الأهم لم يتم الاتفاق حولها بعد!
أما بوتين فعبّر من زاوية الثقة في العلاقة التي تربطه بنظيره الأميركي ترامب، وتأثيرها في زيادة فرص إنهاء الصراع في أوكرانيا، وقال: "بشكل عام، نجحنا أنا والرئيس ترامب في إقامة تواصل عملي جيد ومبنيّ على الثقة، ولدي كلّ الأسباب للاعتقاد أن السير على هذا الطريق سيمكننا - وكلما كان ذلك أسرع كان أفضل - من إنهاء النزاع في أوكرانيا".
بوتين لمس - على حدّ قوله - رغبة الإدارة الأميركية والرئيس ترامب شخصيًا في حل النزاع الأوكراني، وبادله باهتمام كبير لإنهاء ما يحدث، مع تأكيده على قناعة الثوابت الروسية، داعيًا إلى إزالة الأسباب الجذرية للأزمة، ومراعاة مخاوف روسيا المشروعة، واستعادة التوازن في مجال الأمن الأوروبي والعالمي، لتكون التسوية الأوكرانية مستدامة وطويلة الأمد. وأضاف: "اتفق مع الرئيس ترامب حول ضرورة ضمان أمن أوكرانيا، ونحن مستعدون للعمل على ذلك، ونتوقع أن تنظر كييف والعواصم الأوروبية إلى ذلك بطريقة بنّاءة دون أن تضع أي عقبات".
وبحسب سفير روسيا لدى الولايات المتحدة ألكسندر دارتشييف، فإن مشاورات جديدة ستُعقد قريبًا بين روسيا والولايات المتحدة لبحث النقاط التي تعيق تقدم العلاقات. فقمة ألاسكا هي بداية محتملة لذوبان جبل الجليد المتجذر في عمق العلاقات.
عمليًا، أسهمت القمة الأميركية الروسية في تخفيف حدة الضغوط الاقتصادية على روسيا، فقد استبق الرئيس ترامب انعقاد القمة بإعلانه عدم نيته فرض رسومًا جمركية على شركاء روسيا التجاريين، في سياق مقابلته مع قناة "فوكس نيوز" التي سُجلت في 15 آب/أغسطس على متن طائرته الرئاسية خلال توجهه إلى أنكوريج في ألاسكا، فقال: "روسيا خسرت زبونًا كان يشتري منها النفط"، في إشارة إلى فرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 25% على الهند بسبب شرائها النفط ومنتجاته من روسيا. وأضاف: "الصين ودول أخرى تشتري موارد الطاقة من روسيا أيضًا".
ومن المتوقع أن تحدث انفراجات في العلاقات الروسية الأميركية، فروسيا تشترط استعادة الأصول والممتلكات الروسية القنصلية المصادرة في الولايات المتحدة، وهو أمر مرتبط باستعادة مستوى وحجم التمثيل الدبلوماسي بين واشنطن وموسكو. كما وردت معلومات حول السعي لإعادة تشغيل خطوط الطيران بين الدولتين.
القمة كسرت قمة جبل جليد العلاقات الأميركية الروسية، وبقي قلب جبل التناقضات في عمق العلاقة مع تسجيل انفراجات موضعية استنادًا إلى المصالح المشتركة المتضررة من القطيعة وسياسات العقوبات، دون البت في إنهاء الصراعات، ومنها الصراع في مسرح العمليات الميداني الأوكراني، طالما أن إدارة ترامب تزوّد الدول الأوروبية بالسلاح لأوكرانيا لقاء ثمنه، وروسيا أُعفيت من فرض رسوم جمركية على شركائها، ما يسمح بتغذية ميزانيتها لاستمرار الحرب إلى حين توافق أوروبي - أميركي مع روسيا على اقتسام المكاسب ورسم خارطة النفوذ التي قد تتسع لما بعد جغرافيا أوروبا الشرقية.
أما نقطة الخلاف الأساسية، والتي تندرج ضمن أهداف روسيا من عمليتها العسكرية في أوكرانيا، فهي وقف توسع الناتو وانتشار القوات الأميركية الأطلسية على حدودها الغربية، عودةً إلى حدود الانتشار ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فهل يذهب ترامب بعيدًا في التجاوب مع روسيا ويسحب قواته من أوروبا الشرقية؟ ويتفرغ للمواجهة مع الصين شرقًا؟ وكيف ينعكس التقارب الأميركي - الروسي على ملفات المنطقة؟ أسئلة عديدة تجيبنا عليها الأيام والشهور القادمة.