مقالات

في اللحظة التي يعلن فيها قادة "إسرائيل" صراحة نيتهم السيطرة على مدينة غزّة، كمرحلة في خطة أشمل لاحتلال القطاع، لا يبقى أمام الشعب الفلسطيني أي مجال للمناورة السياسية أو التفاوضية. يصبح القتال، ببساطة، الخيار الوحيد. ليس لأن الفلسطينيين يعشقون الحرب، بل لأن مشروع الإبادة الصهيوني لا يترك لهم أي بديل آخر.
لفهم هذه الحقيقة لا بد من النظر إلى ما وراء مشاهد الحرب اليومية: الدمار، الحصار، المذابح. فالمسألة ليست مجرد عملية عسكرية، بل هي استمرار متّسق لسياسة استعمارية استيطانية عمرها أكثر من قرن، تحظى منذ نشأتها بدعم غير مشروط من الولايات المتحدة والغرب الإمبريالي.
الإبادة كخيار سياسي
إن ما نشهده في غزّة ليس حادثًا عابرًا أو نتيجة ظرفية، بل هو ترجمة حرفية لمشروع استيطاني يعتبر الأرض الفلسطينية فضاءً يجب "تطهيره" من سكانه الأصليين. الإبادة ليست انحرافًا عن المسار "الديمقراطي الإسرائيلي"، بل هي في صميم بنيته: تهجير، محو، اقتلاع، ثمّ إعادة صياغة الواقع على أنقاض الفلسطينيين.
حين تعلن القيادة "العسكرية الإسرائيلية" أن هدفها هو "تدمير حماس" و"نزع سلاح غزّة" و"ضمان ألا تشكّل تهديدًا لإسرائيل"، فالمقصود ليس فقط الفصيل السياسي أو العسكري، بل البيئة الاجتماعية التي تُمكّن المقاومة من البقاء. بكلمات أخرى: المطلوب هو سحق مجتمع بأكمله حتّى لا يبقى فيه ما يمكن أن يولّد مقاومة مستقبلية.
وهذا ليس جديدًا. فمنذ النكبة عام 1948، تعاملت المؤسسة الصهيونية مع الفلسطينيين كـ"مشكلة ديموغرافية"، أي كجماعة بشرية زائدة يجب التخلص منها. في الضفّة، وفي غزّة، وفي الداخل الفلسطيني المحتل، تتجلى هذه السياسة عبر هدم البيوت، ومصادرة الأرض، والقتل الممنهج، وتجريم أي شكل من أشكال الاحتجاج أو التنظيم السياسي.
الدعم الإمبريالي: القناع الأخلاقي للقتل
هنا يأتي دور الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. فمن دون المظلة العسكرية والسياسية والمالية الأميركية، ما كان "لإسرائيل" أن تستمر في مشروعها. الدعم لا يقتصر على مليارات الدولارات من المساعدات العسكرية، بل يتعداه إلى تأمين الحصانة الدبلوماسية: منع أي مساءلة في مجلس الأمن، حماية من العقوبات، تسويق رواية دعائية تعتبر العدوان "دفاعًا عن النفس".
هذه البنية الإمبريالية تمنح "إسرائيل" حرية استخدام القوّة بلا حساب، وتُحوّل الضحايا إلى جناة. فحين يقتل الاحتلال آلاف الأطفال في غزّة، يُطلب من الفلسطينيين "إدانة الإرهاب" بدل إدانة الإبادة. وحين يُحاصر مليونَا إنسان حتّى المجاعة، يُوصف ذلك بأنه "ضغط مشروع على حماس".
إن وظيفة هذا الخطاب ليست فقط تبرير الجريمة، بل تجريم أي محاولة لمقاومتها. ومن هنا يصبح القتال الفلسطيني غير مقبول لا لأنه "عنيف"، بل لأنه يفضح حقيقة المشروع: أن "إسرائيل" ليست دولة طبيعية في نزاع حدودي، بل قاعدة استعمارية عنصرية لا يمكن أن تعيش إلا بالقوّة.
لماذا القتال وحده؟
في مواجهة هذا السياق، لا يبقى أمام الفلسطينيين سوى المقاومة المسلحة. فالمفاوضات جُرّبت على مدى ثلاثة عقود منذ اتفاق أوسلو، والنتيجة كانت مزيدًا من الاستيطان والجدران والحصار. المجتمع الدولي لم يقدّم شيئًا سوى بيانات القلق، والأنظمة العربية الرسمية، من المحيط إلى الخليج، إما انخرطت في التطبيع أو آثرت الصمت.
إذًا، ما البديل الواقعي أمام شعب محاصر؟ الاستسلام؟ هذا يعني القبول بالترحيل الجماعي أو الموت جوعًا تحت الحصار. الهجرة؟ هذه هي الغاية "الإسرائيلية" نفسها: إفراغ غزّة وتحويلها إلى أرض بلا شعب. القبول بالهيمنة "الإسرائيلية"؟ ذلك لن يوقف آلة القتل، بل سيحوّل الفلسطينيين إلى عبيد في وطنهم.
هنا يصبح القتال، رغم كلفته الباهظة، أداة دفاع عن الوجود ذاته. ليس خيارًا بين الحرب والسلام، بل بين المقاومة أو الزوال.
الاستنزاف كاستراتيجية
المقاومة الفلسطينية ليست جيشًا نظاميًا يملك أسلحة متطورة، لكنّها تملك ما لا يملكه الاحتلال: إرادة البقاء على أرضها. إستراتيجيتها تقوم على استنزاف الخصم، وكسب الوقت، وتحويل الاحتلال إلى عبء سياسي واقتصادي وأخلاقي على "إسرائيل" نفسها.
وقد بدأت ملامح هذا الاستنزاف بالظهور. فبعد شهور طويلة من القصف والتدمير، لم تحقق "إسرائيل" أيًّا من أهدافها المعلنة: حماس لم تُهزم، الأسرى لم يُحرروا، الردع لم يُستعد. بالعكس، ازداد الانقسام الداخلي "الإسرائيلي"، انهار الاقتصاد جزئيًّا، وتعمّقت عزلة الكيان دوليًّا. حتّى حلفاؤه الغربيون بدأوا يواجهون احتجاجات داخلية متصاعدة تطالب بوقف دعمه.
الانتحار "الإسرائيلي"
هنا تكمن المفارقة: "إسرائيل"، وهي تمضي قدُمًا في مشروع الإبادة، تدفع نفسها نحو مسار انتحاري. فكلما صعّدت من وحشيتها، زاد فقدانها لشرعيتها، وكلما توسعت في تدمير غزّة، زادت قدرتها على استثارة مقاومة أكثر مرونة وتجذرًا.
إن مشروع الاستيطان، بطبيعته، لا يعرف التوازن ولا التسويات. لذلك لا يتّجه إلا نحو نقطة الانفجار: إما القضاء على الشعب الأصلي بالكامل (وهو ما أثبت التاريخ استحالته)، أو انهيار المشروع نفسه تحت وطأة تناقضاته الداخلية وضغوطه الخارجية.
الدرس الأوسع
القضية الفلسطينية هنا تقدم درسًا يتجاوز حدودها: إن الاستعمار الاستيطاني، حين يفشل في إخضاع الشعوب، يلجأ إلى الإبادة. لكن هذا الخيار، بدلًا من أن يضمن له البقاء، يفتح الباب لانكشافه وسقوط أقنعته الأخلاقية.
لقد حاولت "إسرائيل" طوال عقود أن تقدم نفسها كـ"واحة ديمقراطية" في الشرق الأوسط، لكن غزّة فضحت هذا الزيف. لم يعد من الممكن إخفاء صور المقابر الجماعية والمجاعة المنظمة تحت شعارات "الحرب على الإرهاب". العالم يشهد، يومًا بعد يوم، أن ما يحدث هو جريمة ممنهجة لإبادة شعب أعزل.
لهذا يصبح القتال الفلسطيني، مهما حاولت المنظومة الإعلامية الغربية تشويهه، فعلًا دفاعيًّا بامتياز. إنه دفاع عن الحق في الوجود ضدّ مشروع يهدف إلى المحو. وحين يُسأل لماذا يقاتل الفلسطينيون، تكون الإجابة واضحة: لأنهم يرفضون أن يكونوا الضحية الصامتة في كتاب الإبادة الصهيوني.
ولذلك، فإن كلّ رصاصة يطلقها المقاوم، كلّ نفق يُحفر، كلّ محاولة للبقاء في الأرض، ليست مجرد فعل عسكري، بل إعلان صريح: "لن نُباد".
إنها معركة غير متكافئة، لكنّها أيضًا معركة تكشف زيف النظام الدولي، وتضع "إسرائيل" وحُماتها أمام حقيقتهم: أنهم يقاتلون لا ضدّ "الإرهاب"، بل ضدّ الحق في الحياة. ومن هنا، يصبح القتال الفلسطيني ليس خيارًا أخلاقيًا فقط، بل الخيار الوحيد الممكن في مواجهة مشروع الإبادة.