مقالات
في كل بقعة تشهد صراعًا؛ نجد قدمًا صهيونية خفية وقدمًا إماراتية ظاهرة ومظلة أميركية راعية للصراعات؛ والإفادة من أطرافها وتفاصيلها وتوظيفها لخدمة استراتيجية الهيمنة.
الصراع في القرن الإفريقي هو من الصراعات المركّبة بسبب التشابك بين الصراع عليه من خارجه والصراع به من داخله، فهو يشهد تسابقًا جيوستراتيجيا بين القوى الكبرى والإقليمية لموقعه الاستراتيجي البحري على البحر الأحمر وخليج عدن وإشرافه على واحد من أهم المضائق في العالم، وهو مضيق باب المندب. كما يشهد صراعات بينية وصراعات داخل دوله الرئيسة، وهي: الصومال وجيبوتي واريتريا وأثيوبيا، وهي صراعات سمحت بالتدخل الخارجي للتسلل، كما تسبب الاستعمار وحدوده ومحمياته ومستعمراته في كثير منها.
تبرز، حاليًا، على واجهة الأحداث العالمية ملامح لتجدد الحرب بين أثيوبيا وأريتريا، حيث اتّهم وزير الإعلام الإريتري "يماني قبر مسقل" "حزب الازدهار" الحاكم في أثيوبيا بالسعي إلى "إشعال حرب غير مسوّغة" و"إعادة إنتاج الخطاب التوسعي"، وذلك ردّا على خطاب وزير الخارجية الأثيوبي الذي اتّهم أريتريا بزعزعة استقرار بلاده.
على الرغم من عوامل الصراع التاريخية المتجددة بين البلدين، منذ انفصال أريتريا في العام 1991 فعليًا وفي العام 1993 رسميًا، إلا أن السبب المباشر هذه المرة يبدو بدفع خارجي مباشر، وهو ما يتضح من التصريحات اللافتة التي قالها مؤخرًا الرئيس الأريتري "إسياس أفورقي"، والذي حذر من محاولة ما سمّاها "قوى خارجية" ترسيخ مواقع هيمنة في المنطقة، من خلال إنشاء قواعد عسكرية في جُزر سقطرى وميون وزقر في اليمن، وبرأيه أن عدم الاستقرار في اليمن ينبع من طموح قوى عالمية في ترسيخ وجود عسكري هناك.
في هذا الصدد؛ بالطبع، تتوجه الإشارة مباشرة إلى دولة الإمارات العربية، والتي أفادت التقارير الدولية بضلوعها في إنشاء هذه القواعد وتعاونها مع "إسرائيل" لوضع موطئ قدم لها، وهو ما لا يمكن إتمامه من دون مظلة ورعاية أميركية.
من هذه التقارير؛ يمكن الإشارة الى تقرير موقع "ميدل إيست آي"، والذي أفاد بإنّ تحليلاً لصور أقمار صناعية، يكشف شبكة واسعة من القواعد العسكرية والاستخباراتية، والتي بنتها الإمارات في محيط البحر الأحمر، وأن الشبكة تمتد من جزر سقطرى في المحيط الهندي إلى سواحل الصومال واليمن، مشيرًا إلى أن ضباط صهاينة موجودون في الجزر ورادارات "إسرائيلية" لمراقبة حركة "أنصار الله"، وأن أميركا و"إسرائيل" شاركتا في عملية بناء هذه القواعد.
كما لا يقتصر الأمر على تقارير وسائل الإعلام، حيث تتخطى الأمور هذا النطاق إلى نطاق سياسي وعسكري صريح. وبتتبع المسار السياسي والعسكري نخلص إلى أن أميركا والكيان يحركان الصراع، ودولة الإمارات تقود الدور التنفيذي عبر دعم وتمويل الأطراف والحركات المنفذة للأجندة الأميركية والصهيونية.
هذا؛ وتعدّ أرض الصومال "صوماليلاند" من أبرز المصاديق لهذه المقاربة، حيث تعدّ أكبر الأزمات في القرن الإفريقي التي تهدد مصالح جيبوتي وسيادة الصومال وأمن ومصالح أريتريا والسودان وصولاً إلى مصر، هي أزمة إصرار أثيوبيا على الوصول إلى منفذ بحري على البحر الأحمر بسبب سياسات أثيوبيا المعادية ورغبتها في استعادة الهيمنة وتشكيلها رأس حربة لأميركا و"إسرائيل" في المنطقة.
من ضمن العوامل التي تؤجج الصراع الراهن هو توقيع مذكّرة تفاهم بين "آبي أحمد" رئيس وزراء أثيوبيا و"موسى بيحي" رئيس أرض الصومال الانفصالية، والتي بموجبها ستحصل أثيوبيا على ممر إستراتيجي بطول 20 كيلومترًا في مياه خليج عدن، وميناء تجاري وقاعدة بحرية لقواتها البحرية. وهذا ما يتيح للبحرية الأثيوبية الحق في التموضع على سواحل خليج عدن، من خلال بناء قاعدة عسكرية في مدينة لوغهايا واستخدام ميناء بربرة لأغراض تجارية، مقابل اعتراف أديس أبابا بأرض الصومال دولةً ذات سيادة، وتعطي لها حصة من الخطوط الجوية الأثيوبية.
يذكر أنه منذ إعلان إقليم أرض الصومال انفصاله عن الصومال من جانب واحد، في العام 1991، تجنبت أثيوبيا الاعتراف به حتى لا تقع في شبهة الانخراط في تفتيت الصومال، وتكريس مبدأ الاعتراف بانفصال الأقاليم؛ لاسيما وأنها عرضة لذلك في ظل تشكّلها من عرقيات مختلفة يخوض العديد منها صراعات مسلحة ضد الحكومة المركزية، إضافة إلى أن ميناء بربرة بحاجة إلى تطوير كبير وشبكة طرق جديدة لربطه بأثيوبيا، وهذا ما يتطلب دعمًا خارجيًا يشمل استثمارات ضخمة وخبرات تقنية أجنبية.
في هذا السياق؛ دخلت الإمارات على الخط، وهو ما غيّر الموقف الأثيوبي، حيث دشّن التحالف العربي للعدوان على اليمن، في العام 2015، واستخدمت الإمارات جيبوتي في البداية مركزًا لدعم للعمليات في جنوب اليمن، ثم اختلفت أبوظبي مع جيبوتي، والتي أقدمت حكومتها على طرد الإمارات من البلاد، فقامت الإمارات باللجوء إلى أريتريا، وأجّرت منها ميناء "عصب" لدعم عملياتها العسكرية في اليمن. وهذا ما تناقض مع مصلحة أثيوبيا في عزل أريتريا دوليًا، وبالتالي استُبدل ميناء بربرة بميناء عصب في أرض الصومال، ودخلت الإمارات على خط الاستثمار في ميناء بربرة بدلاً من أريتريا.
المتابع لمسار العلاقات الأميركية - الصهيونية مع أريتريا وأرض الصومال؛ يرى تناغمًا لافتًا مع التحولات الإماراتية، فقد اتسمت العلاقات الأميركية- الأريترية بالتقلبات المستمرة، حيث بدأت بالاحتضان والدعم ثم تحوّلت للعداء مع تجدد الحرب الأريترية- الأثيوبية وفرض العقوبات على أريتريا، ثم محاولة الاحتواء حتى لا تتحالف أريتريا مع خصوم أميركا. ومرحلة الاحتواء شهدت الوساطة الإماراتية في المصالحة بين أريتريا وأثيوبيا، ثم انقلبت الأمور إلى عداء وتلويح بالحرب بعد تفضيل أميركا والكيان الصهيوني لميناء بربرة على ميناء عصب لقربه من باب المندب واليمن وبناء القواعد في الجزر اليمنية في سوقطرة وميون، واختيار أثيوبيا حليفًا موثوقًا بعد تقارب أريتريا مع روسيا والصين وإيران.
بناء على ذلك؛ توجه الدعم الإماراتي لأثيوبيا بشكل غير مسبوق، وكثفت الإمارات استثماراتها في أرض الصومال وبنت فيها قاعدة عسكرية. كما تحدثت التقارير عن تقارب أميركا مع أرض الصومال وزيارة وفد من الإقليم الانفصالي إلى واشنطن ونوايا "ترامب" لتهجير أهل غزة إلى أرض الصومال. هذا فضلاّ عن التقارير التي تحدثت عن توسيع التعاون بين "إسرائيل" مع أرض الصومال وبناء قواعد عسكرية هناك لمراقبة "أنصار الله".
في الخلاصة
إن اميركا و"إسرائيل" تبدّلان تحالفاتهما وفقًا لمصالح الهيمنة، فبعد احتضانهما لأريتريا في بداية انفصالها، أصبح هناك عداء وتلويخ بالحرب واستعادة ميناء عصب عسكريًا، وبعد الاحتياط في الاعتراف بأرض الصومال وتجنب ذلك، تتجه الأمور للاعتراف ووضع موطئ قدم في ميناء بربرة. وهذا ما يقول إن أميركا والكيان ليس لهم أصدقاء أو حلفاء إلا الهيمنة، في حين تسير الإمارات وفقًا للفلك الأميركي -"الإسرائيلي" وتوظف أموالها وشركاتها لتمويل وخدمة الأطراف المرشحة لخدمة أميركا والكيان وفقًا لطبيعة المرحلة. وهذا ما نجده في السودان وليبيا وتشاد وبقية جبهات الصراع الدولي والإقليمي، وهو درس مستفاد لكل الحكومات التي تراهن على احتضان أميركي مزعوم ووعود أميركية زائفة وإغراءات خليجية وإماراتية مسمومة.