مقالات مختارة

صحيفة الأخبار
رغم توافر ما يكفي ويزيد من أموال في الخزينة العامة، أقله لترميم الأبنية المتصدّعة في الضاحية الجنوبية، لم تتحرّك وزارة المال في هذا الاتّجاه إلا بعد توقيع قرض مع البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار منه 20 مليونًا يمكن انفاقها في هذا المجال. لكن الهبة العراقية بقيمة 20 مليون دولار كانت جاهزة وتنتظر أن يتلقّفها أحد ما من الجهات الرسمية في لبنان، فيما تتنعّم الخزينة بأكثر من 2.7 مليار دولار من الأموال الجاهزة للانفاق.
لكن المشكلة تبدو في القرار السياسي الذي لم يكن حاسمًا في هذا الاتّجاه إلا بعدما أثارت "الأخبار" هذا الأمر أكثر من مرّة. غير أن تحرّك الوزارة، كما برز من تصريحات ياسين جابر، يبدو مبالغًا بالكلفة التقديرية لترميم الأبنية المتصدّعة، إذ قال إنها تبلغ 60 مليون دولار، فيما تقديرات جهاد البناء والمكتب الهندسي "آرش" يقولان إنها أقل من 40 مليون دولار. فهل سيصبّ الفرق البالغ 20 مليون دولار في جيوب أحد ما، أم أن هناك عيبًا في التقدير؟
ترميم الأبنية المتصدّعة، المسمّى الترميم الإنشائي، كافٍ لإعادة إسكان نحو 7 آلاف عائلة. ورغم كلّ المراجعات التي حصلت من النائبين حسن فضل الله وأمين شرّي مع رئيس الحكومة نواف سلام، ومع وزير المال ياسين جابر، إلا أنه لأشهر ظلّت الوعود كلامًا في الهواء.
جابر كان يلقي المسؤولية على رئيس الحكومة بوصفه هو الجهة التي تتّخذ هذه القرارات، فيما كان سلام يسأل ويسأل ويقدّم الوعود العرقوبية. وسلام، همس لعدد من زواره، بأنه تلقى رسائل خارجية واضحة بأنه لن يعقد مؤتمرًا لإعادة الإعمار إلا بعد "نزع السلاح"، وأنه كان يعوّل على هذا الأمر من عقد مؤتمر في نيسان الماضي ثمّ في الأشهر التالية، ولكنه تبلّغ بوضوح أن الأمر مرتبط بقرارات نزع السلاح. وفي الواقع، لا أحد يجادل سلام بهذا الأمر تحديدًا، إنما المسألة لا يمكن حصرها بمؤتمر ما للتسوّل، بل بتسخير الإمكانات والسعي إلى تفعيلها، وهو أمر لم يظهر على سلوك وقرارات سلام، ومن ورائه على ياسين جابر.
وفجأة، انقلب صمت وزارة المال إلى تصريحات وبيانات في مطلع الأسبوع الجاري، حين استقبل جابر مستشار رئيس الجمهورية لشؤون إعادة الإعمار الوزير السابق علي حمية. أعلن جابر "قرب التوقيع على قرض البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار المخصّص لإعادة تأهيل البنى التحتية المتضررة"، وأبلغ حمية أن وزارة المال "خصّصت 200 مليار ليرة للضاحية الجنوبية، و600 مليار ليرة لمجلس الجنوب للمباشرة برفع الأنقاض في باقي المناطق المتضرّرة". وفي وقت لاحق، قال جابر إن هناك 500 مبنى متصدّع في الضاحية الجنوبية بكلفة ترميم تبلغ 60 مليون دولار.
للأرقام وقع في الأذهان أكبر بكثير من وقعها على الموازنات. تقديرات جابر لكلفة ترميم المباني المتصدّعة تبلغ 60 مليون دولار، في مقابل تقديرات المكتب الهندسي "آرش" بكلفة 40 مليون دولار. الفرق بينهما يبلغ 20 مليون دولار، أي 50% من الكلفة الأدنى.
جابر يرفض الإجابة عن رسائل "الأخبار" للاستفسار عن الأمر، لذا نضع في عهدته مجموعة من التساؤلات. هل يعني هذا التصريح من جابر، أنه خصّص الأموال لترميم الأبنية المتصدّعة، وأنه سيباشر قريبًا بعملية التلزيم؟ أم أن الرقم التقديري للكلفة هو شرط ضروري لبدء عملية التلزيم؟ أم أن سلام لم يأذن بعد بتمويل كلفة الأبنية المتصدّعة وهذه التصريحات ليست سوى مناورة؟
في الواقع، لم يبلغ كلام جابر مرتبة الوعود، إنّما لفت إلى وجود تبرع بقيمة 20 مليون دولار من الدولة العراقية، فضلًا عن صندوق لإعادة الإعمار يحتوي على 355 مليون دولار ستتوافر بعد التوقيع على قرض البنك الدولي. بالتالي، لا تعدو هذه التصريحات أكثر من محاولات من الدولة للقول "نحن هنا"، لا للفعل. فالحكومة لا تريد إعادة الإعمار، وهي ربطت الملف بشكل وثيق بمصير سلاح المقاومة، تقول مصادر نيابية، إذ كان من المفترض تحويل 5 ملايين دولار للهيئة العليا للإغاثة لترميم الأبنية التي ضربت في الضاحية بعد وقف إطلاق النار، ليلة عيد الأضحى في السادس من حزيران الماضي.
الوقائع تفيد بأن حزب الله سدّد نحو 1.1 مليار دولار على عملية الترميم البسيط المعروف بـ"التشطيب"، وعلى إيواء العائلات التي دُمّرت مساكنها. وفي الوقت نفسه، لا تتجاوز المبالغ المرصودة وغير المدفوعة بالكامل من الدولة سقف 4 آلاف مليار ليرة، أي ما يوازي 44 مليون دولار، والتي أقرّتها الحكومة السابقة لا حكومة نواف سلام، وحرّكت بموجبها 15 عملية كبرى للمسح ورفع الردم، شاركت فيها 7 وزارات ومجلسا الجنوب والإنماء والإعمار والهيئة العليا للإغاثة واتحادات البلديات.
على الأرض، يؤكّد معنيون في "جهاد البناء"، وهي الجهة التي تقوم بالجهد الحقيقي والملموس في رفع الركام والترميم، "عدم تلقيهم رسائل رسمية تفيد بتولّي الدولة عملية الترميم الإنشائي في الضاحية الجنوبية". ورغم ترحيبهم بأصل الفكرة إن وجدت، يشيرون إلى عدم وجود أي معطيات لا عندهم ولا عند المكتب الاستشاري "آرش" المعني بملف الترميم الإنشائي بهذه المبادرة.
أما في حال ثبتت صحة هذا التوجّه، فيؤكّدون أنّ الملف سيصبح بيد الهيئة العليا للإغاثة، تحديدًا المكتب الهندسي الاستشاري "خطيب وعلمي". وهنا، يبدي المعنيون في "جهاد البناء" استعدادهم للتعاون مع الجهات الرسمية في حال الطلب، فالمسوحات الهندسية وعملية تقدير الأضرار لم تشارك الدولة فيها بشكل فاعل.
تلزيم الأبنية المتصدعة بالمناقصات العامة
يشير رئيس هيئة الشراء العام جان عليّة إلى أنّه "في الحالة العامة، تذهب الأموال إلى الجهات المعنيّة بالتنفيذ"، هنا الهيئة العليا للإغاثة، وفقًا للقرار الحكومي الرقم 4 الصادر في 7 كانون الأول من عام 2024. ثمّ، "تقوم هذه الجهات بالإعلان عن التلزيم على موقع هيئة الشراء العام وهي غير ملزمة قانونًا بإرسال دفتر الشروط مسبقًا إلى الهيئة". ولكن، في حال كان مصدر هذه الأموال الخزينة العامة، تلزم الجهات الملزِّمة بالسير بالتلزيم وفقًا لقانون الشراء العام، أي بالمناقصات العمومية. أما في حال كانت الأموال من مصادر دولية تقيّد استخدام أموالها، غير التبرعات، فلا تخضع عملية التلزيم لشروط قانون الشراء العام.