مقالات

شخصان يمكن لهما أن يفعلا ما يحلو لهما: المستبدُّ الطاغية، والذي لا يستحي. وإذا كان المثل يقول: إن لم تستحِ فاصنعْ ما شئت، دون مثل آخر يتحدث في هذا المجال عن الطاغية؛ فلأن شأن الطاغية أوضح، ولا حاجة لمثل يتحدث عنه.
قد يكون هناك طاغية، وقد يوجد الوقح الذي لا يستحي، أما الأميركي فقد جمع الخصلتين، فهو طاغية ولا يستحي. وإذا وضعنا الآن جانبًا ما فعله الأميركيون "الجلَب" بالأميركيين الأصليين، سكان ما أصبح يطلق عليها الولايات المتحدة الأميركية، لرأينا أن عَلاقات الولايات المتحدة الأميركية منذ بدايات نفوذها الخارجي؛ انطلاقًا من الحرب العالمية الثانية، كانت عَلاقات مبنية على الوقاحة والطغيان. وللاختصار نذكِّر بشكل عابر بما فعلته الولايات المتحدة في فيتنام وكوريا وأفغانستان والعراق وغيرها من الدول.
ولأن المقال لا يُعنى بالتأريخ والتوثيق، نقف عند وقاحة آخر الرؤساء الأميركيين، وطاقمه من السياسيين والدبلوماسيين، وكيفية تعاطيهم مع الشعوب والمسؤولين.
في ولايته الرئاسية الأولى؛ عام 2017، رفض ترامب مصافحة المستشارة الألمانية (يومها) أنجيلا ميركل، في مكتبه البيضاوي، في سلوك وصفته ميركل بعد ذلك؛ بأنه "استعراضي يهدف لجذب الانتباه". وفي العام نفسه، خلال اجتماعات قمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل، دفع ترامب بيده رئيس وزراء جمهورية الجبل الأسود، دوسكو ماركوفيتش؛ لكي يتمكن من الوقوف في الصف الأمامي. وفي اجتماع مغلق مع مشرِّعين أميركيين عام 2018 وصف الرئيس الاميركي بعض الدول الإفريقية وهايتي بأنَّها "حُفر قذرة".
طبعًا؛ لا أحد منا سينسى كيف كان تعامُل ترامب مع بعض الزعماء والحكام العرب، وهو أظهر مرات عدة أنه يتعامل معهم على أنهم زبائن للولايات المتحدة. وقد تبجَّح عام 2017 خلال زيارته إلى الرياض؛ بأنه عقد صفقات بقيمة 450 مليار دولار، وقال مقولته التي انتشرت يومها: "أخذنا منهم مئات المليارات. وظائف! وظائف!". ولطالما ذكر كلمة صفقة حين يكون موضوع مقابلاته أو تصريحاته موضوعًا يتعلق بما يسمى "السلام" بين العرب و"إسرائيل".
وفي ولاية الرئيس ترامب الحالية شاهدنا كيف قاطع الرئيسَ الموريتاني محمد ولد الغزواني، في أثناء غداء عمل؛ لإسكاته، وكيف طالب رئيس غينيا بيساو عمر سيسوكو إمبالو بذكر اسمه وبلده، وكيف أظهر دهشته من كون الرئيس الليبيري جوزيف بواكاي يتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة. كما شاهدنا كلنا كيف جلس ترامب منذ أيام خلف مكتبه البيضاوي وأجلس أمامه عددًا من الرؤساء الأوروبيين؛ كأنهم تلاميذ في محضر أستاذهم، غير عابئ بالأعراف الدبلوماسية والبروتوكولات الواجب التقيُّد بها في مثل هذه اللقاءات التي تكون على مستوى رفيع.
ونصل مع ترامب إلى قمة وقاحته، حين لا يعبأ بعشرات الآلاف من شهداء غزة من المدنيين؛ رجالًا ونساءً وأطفالًا وأجنّة، ولا بالمجاعة التي أدانتها المنظمات الدولية، ولا يرى من قطاع غزة سوى مشروع تجاري اقتصادي، خالٍ من أهل غزة، فإذا غزة عنده منطقة اقتصادية ذات أبراج، وكلما سنحت له الفرصة يتحدث عن مشروعه الذي يحضّره للقطاع.
ولأن السيادة اللبنانية لا شيء بالنسبة لترامب، نراه يسرّب مقترحات عن إقامة منطقة اقتصادية تحمل اسمه في جنوب لبنان؛ كأن جنوب لبنان أرض مشاع، وكأن الدم الذي سقط فيه سقط لأجل التفريط بهذه المنطقة التي استُشهد لأجلها لبنانيون من كل الوطن.
وإذا كان ترامب وقحًا في حديثه عن جنوب لبنان، فإن الوقاحة الأميركية تحصل في لبنان على الهواء مباشرة، وفي مناسبات ليست قليلة. الأصل في العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة ولبنان هي الوقاحة الأميركية، وقلَّ من لم يكن وقحًا من الدبلوماسيين والموفدين الأميركيين، ومن موظفي السفارة الأميركية في لبنان. يتصرف هؤلاء؛ كأن لبنان محمية أميركية، لا سيادة لها، ولا رؤساء فيها. حتى أن موفدة مرة وموفدًا مرة أخرى، يصرحان من على منبر القصر الجمهوري تصريحات مسيئة للبنانيين؛ كأن شيئًا لم يحصل، خلا بعض الإدانات الخجولة أو بيانات التأسف.
تستنكر جماعة السيادة اللبنانية أي تصريح لأي مسؤول إيراني يملؤه الاحترام والود للبنان وأهله، وتنتفض لكل كلمة تصدر من هذا المسؤول، ولا تزعجها عشرات التصريحات التي تصدر شهريًّا عن كبار الدبلوماسية الأميركية وصغارها، والتي تمس السيادة اللبنانية، والكرامة اللبنانية، والعزة اللبنانية.
كان للبنان رئيس يدعى إميل لحود، أقفل الخط في وجه وزيرة الخارجية الأميركية وقتها مادلين أولبرايت، وكان في لبنان رئيس يدعى ميشال عون، ترك وزير الخارجية الأميركي ينتظره في صالون القصر الجمهوري لدقائق عدة. سيذكر اللبنانيون والتاريخ هذين الموقفين، ربما البسيطَين، ولكنهما يعبران عن شيء من السيادة، ومن القدرة على مواجهة الوقاحة الأميركية التي ترعب الكثيرين من زعماء لبنان والعالم.