مقالات مختارة

ناصر قنديل - صحيفة البناء
- مرّ على المقاومة في لبنان وفلسطين ما يكفي من الظروف الصعبة، وتحمّلت الكثير الكثير من التضحيات بما لا تستطيع دول عظمى الصمود من بعده، وأحاطت بها مؤامرات متعدّدة الأطراف وحشدت لها طاقات وإمكانات وقفت وراءها أهم القوى الكبرى في العالم والمنطقة، وقد سمح كلّ ذلك بنسج سرديّة وظفت قنوات إعلامية عملاقة وموازنات طائلة لترويج هذه السردية، وجوهرها القول إن المقاومة هزمت، وانتهى أمرها ولم يبق منها سوى الركام، وإن الهزيمة لم تقف عند حدود المقاومة كبنية بل كخيار، وصارت هذه السردية بذاتها أداة حصار جديدة لتدمير الحالة النفسيّة لبيئة المقاومة ومؤيديها وإقناعهم بأنهم يربطون مصيرهم بجثة هامدة.
- مرّ على هذه السردية في لبنان وفلسطين اختبار هو الأهم والأشد فاعلية وقيمة على صعيد فحص عناصر القوّة والضعف، ولم تحتج المقاومة في لبنان وفلسطين إلى أكثر من خوض الاختبار بهدوء وحكمة وشجاعة لتترك في ساحة السياسة والإعلام حقائق ووقائع غير قابلة للإنكار تقول إنها لا تزال صانع السياسة الأول في ساحاتها، وإنها لا تزال تملك الحيوية والقدرة والقوّة بما يكفي لإحباط كلّ محاولات الاستهداف والتطويق، ورغم حال الإنكار التي يحاول التعبير عنها بعض الأبواق التافهة الرخيصة للقول إن ما جرى هو مجرد تغيير تكتيكي لا قيمة له في إعادة رسم الصورة الإستراتيجية للصراع، فإن الطرفين الأساسيين المعنيين، صناع المؤامرات والرأي العام، تلقف كلّ منهما الرسالة الجديدة وجعل منها عنوانًا لمرحلة جديدة.
- في لبنان بين 5 آب و5 أيلول، كان الاختبار المهم والمصيري لموازين القوى، عندما حاولت ثلاثيّة واشنطن و"تل أبيب" والنظام العربي الرسمي، الضغط لإنتاج معادلة حصار المقاومة بعنوان شرعيّة الحكومة اللبنانية وقرار حصر السلاح بيد الدولة والمقصود نزع سلاح المقاومة، وكان محور التغيير في السياسة الحكومية يقوم على تسويق فكرة الفصل بين مسار مستقبل الاحتلال وأولوية انسحاب قواته ووقف اعتداءاتها، ومسار افتراضي تم تصنيعه تحت عنوان الحق الحصري لمؤسسات الدولة باحتكار حمل السلاح، بصورة مخالفة لأبسط قواعد الشرعية القانونية والدستورية التي تربط حقوق الدولة، خصوصًا حصر السلاح، بشرط وجوب هو قيامها بواجب الحماية، وتقوم على اعتبار حق الشعب في مقاومة الاحتلال أعلى مرتبة من حق الدولة باحتكار السلاح عندما تعجز أو تتخلف أو تتخاذل في ردع العدوان وتحرير الأرض، ولن نغوص في ما فعلته المقاومة وما قالته المقاومة، وكيف خاضت معركتها، لأن أمامنا حصيلة بائنة قدّمها اجتماع الحكومة بعد شهر من قرار الفصل، والذي أعاد الربط بين مساري مستقبل الاحتلال واعتداءاته واحتلاله من جهة ومسار مستقبل سلاح المقاومة من جهة موازية، بالقول إن لا خطوة نحو السلاح قبل تحقيق انسحاب قوات الاحتلال ووقف اعتداءاتها، وكان هذا جوهر اعتراض المقاومة على كلّ خطاب حصر السلاح.
- في فلسطين، خصوصًا في غزّة، صورة التدمير والقتل والتجويع، توّجت بقرار حكومة الاحتلال بإطلاق عملية احتلال مدينة غزّة، وبدأت سردية التهويل بقرب ساعة انهيار المقاومة، والدعوات للاستسلام منعًا لحدوث الكارثة، وفي الخلفية طعن بكلّ خيار المقاومة وجدوى الثبات عليه، وبعد أقل من أسبوعين على انطلاق العملية، ظهرت المقاومة في فلسطين واليمن بكامل الحضور والجهوزيّة لتقول الكلمة الفصل، وخلال هذين الأسبوعين، كان جيش الاحتلال يقتل ويدمر ويجوّع في غزّة وينكّل بالفلسطينيين في الضفّة الغربية، ويغتال الحكومة في اليمن ويحرق محطات الكهرباء وخزانات النفط، لكن خلال هذين الأسبوعين كانت الكلمة الفصل للمقاومة، فكانت معركة حيّ الزيتون وظهر التهالك في أداء جيش الاحتلال والإبهار في أداء المقاومة في عملية مركبة شارك فيها مئات المقاتلين، الذين استهدفوا لواء كاملًا لجيش الاحتلال، ثمّ جاءت عمليات متلاحقة توّجت أول أمس من اليمن بطائرات مسيّرة استهدفت عدة مواقع داخل الكيان وحققت أهدافها، ومن قبلها صاروخ نوعيّ متعدّد الرؤوس تسبّب بتعميم الذعر في الكيان قيادة وخبراء ومستوطنين، بعدما عجزت كلّ الدفاعات الأميركيّة و"الإسرائيليّة" عن إسقاطه، وحدث أمس ما يكفي دفعة واحدة، عمليّة تستهدف المستوطنين في القدس فتقتل وتجرح العشرات، وعملية عسكرية للمقاومة في جباليا ضدّ تجمّع الدبابات يعترف جيش الاحتلال بحصيلة أربعة قتلى له، وطائرات مسيّرة يمنية مرة أخرى تضرب وتصيب أهدافها، وصراخ في الكيان يرتفع بوجه بنيامين نتنياهو، ويسأل كم من "الإسرائيليين" يجب أن يُقتل حتّى تعترف بأن حربك بلا جدوى، وأن هذه المقاومة من القوّة بما يكفي لتجعل حرب غزّة مستنقعًا يغرق فيه الجيش المتهالك الذي يقاتل بلا روح وتصرخ قيادته طلبًا لوقف الحرب، لأنها لا تمتلك العديد والمعدّات والمؤهلات لمواصلة الحرب.
- المقاومة في لبنان وفلسطين تقاتل وجهًا لوجه مع كيان الاحتلال وتتحرّك في أشدّ الساحات خطرًا، وعندما تحقق الإنجازات وتكسر سرديّة الضعف التي هيمنت على الرأي العام خلال شهور مضت، فهذا يعني أن الآتي أعظم، وأن الكيان دخل عنق الزجاجة، ولن يستطيع الخروج منها إلا بالتسليم بأن حربه فشلت، وأن تسوية في منتصف الطريق هي مخرج مناسب.