نقاط على الحروف

يُمعِن الإعلام المعادي للمقاومة في لبنان بالتسويق للسردية "الإسرائيلية" المرافقة للعدوان، بشكل يتفوّق فيه على الإعلام العبريّ نفسه في صناعة البروباغندا المؤازرة للاعتداءات المتواصلة على لبنان. بعد الغرق في إيجاد الأعذار والذرائع عند كلّ اعتداء، وفق منهجية أن تكون ملكيًّا أكثر من الملك، تتنافس مؤسسات الإعلام الخاضع لوصاية عوكر المباشرة في الترويج للأضاليل "الإسرائيلية" بعد كلّ اعتداء، وتتعامل معه وكأنّه حقّ طبيعيّ للصهاينة.. وأكثر من ذلك، تبدو وكأنّها تحمّل المقاومة مسؤولية ما يقوم به الصهاينة ضدّ أرض لبنان، فيستعيد المتفرّج بضحكة ساخرة حال الإرباك الذي ألمّ بهذه المؤسّسات حين قصفت "إسرائيل" قطر: الإرباك الذي يترجم مقولة "هيدي عين وهيدي عين"، إلى أن حسمت أمرها، بعد التعليمة مباشرة، لتعتبر أن العدوان على قطر هو عمل مُدان، مع إبقاء ذكر الفاعل قيد التجهيل، كي لا تتورّط في موقف قد يُغضب حارس أمن في السفارة!
على الرغم من عدم مرور يوم واحد من دون تسجيل عدوان "إسرائيليّ" مباشر ضدّ لبنان ودخول هذه الاعتداءات حيّز الاعتياد بحيث لم تعُد تُذكر في النشرات الإخبارية "اللبنانية" شكلًا والصهيونية مضمونًا إلّا في مستوى ذكر عدد حوادث السيّارات اليومية، وبحيث لم يعد يجد رئيس الحكومة فيها مدعاة تعليق أو استنكار، شكّلت اعتداءات يوم أمس تطوّرًا ملحوظًا: عادت خرائط التهديد التي تستهدف البيوت والأرزاق في القرى الجنوبية التالية: ميس الجبل، كفرتبنيت، دبين، برج قلاويه والشهابية. الأماكن الواقعة داخل الدائرة الحمراء وحولها هي أحياء سكنية ومدارس ومقابر. جميع هذه المرافق المدنية التي تعرّضت للقصف المباشر أو للأضرار الكبيرة وبالبثّ المباشر لم تكن على القدر الذي يدفع مؤسسة تلفزيونية كمؤسّسة المرّ أو صحفية كـ"النهار" وكـ"نداء الوطن" لتكذيب الخبر الصهيوني الذي ادّعى استهداف مقارٍ لقوّة الرضوان! بالنسبة لهذه المؤسّسات وغيرها من الزملاء على معلف عوكر، المصداقية لا في ما تراه العين وإنّما في ما يقوله "المشغّل"، تمامًا كما قبل أيّام حين قصف العدوّ مبنى مأهولًا في مدينة النبطية فأوقع ثمانية جرحى من بينهم أطفال، وشهيدين جنينين، لم ترَ هذه المؤسّسات التي تموضعت بشكل تام في معسكر العدوّ إلّا ما أرادت "إسرائيل" قوله في تبرير هذا القصف: "استهدفنا مقرًّا عسكريًّا لحزب الله". حتّى في يوم أمس، تعاملت المؤسّسات هذه مع خرائط العدوان كهويّة بصريّة ينبغي أن تُحفظ في الأذهان كعلامة "تفوّق إسرائيلي" ولم تكترث لحقيقة أنّ الأماكن المستهدفة هي أحياء سكنية وأنّ استهدافها هو عمل إرهابيّ لا يمكن تبريره أو إيجاد الذرائع له. وفي الوقت نفسه، لم يمسّ مشاعرها السياديّة وعواطفها الجيّاشة المدّعاة تجاه الجيش اللبناني استهداف مقرّ مخابراته في النّاقورة. ولو أراد الصهاينة الترويج لكذبة أنّ هذا المقرّ يُستخدم لصالح المقاومة، لأطلقت هذه المؤسّسات السيادية الحنون سهامها ضدّ الجيش تماهيًا مع سردية الصهاينة.
على مستوى آخر، لم يترك الصهاينة بالأمس مهربًا لرئاسة الحكومة في لبنان، فأحرجوها بنقل العدوان إلى مرحلة أعلى بحيث لم تتمكّن من التجاهل والصمت المعتادين: كتب رئيس الحكومة نواف سلام على منصة "إكس" كلامًا يستنكر "العمليات العدائية"، وليس الانتهاكات كما يقول عادة، ويطالب المجتمع الدولي بالضغط على "إسرائيل" لوقفها، من دون التطرّق إلى أيّ خطوة عمليّة تجعل ذلك ممكنًا وطبعًا من دون التراجع عن قرار سلب لبنان قوّته في مواجهة هذا العدوان. وهذا ما تحدّث عنه النائب السيد حسن فضل الله إذ قال إنّ التعويل على المناشدات الرسمية لرُعاة اتفاق وقف النار هو صرخة في وادٍ سحيق لن يسمعها أحد، كما نبّه إلى أنّ "التنازل الرسمي عن عناصر القوّة لم ينتج منه سوى التمادي "الإسرائيلي" في العدوان. في السياق نفسه، أصدر رئيس الجمهورية جوزاف عون موقفًا مشابهًا من دون التلويح باستخدام أيّ رادع ضدّ العدوان ولو على الأقلّ تعليق التزام لبنان ببنود إعلان وقف إطلاق النار والقرار ١٧٠١. أمّا موقف رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه برّي، فقد جاء متماهيًا تمامًا مع موقفه الوطني المقاوم والساعي إلى وقف العدوان وإلى حفظ لبنان ومقاومته بمواجهة الهمجية الصهيونية المتصاعدة. وبالطبع، نقل الإعلام إيّاه أخبار الإدانات الصادرة عن الرئاسات اللبنانية الثلاث بشكل متحفّظ يكتفي بالنقل دون تبنّي الإدانة حتّى، ولو على سبيل ادّعاء بعض الأخلاقيات الإنسانية والمهنية.
هل نستغرب، لا سمح الله، مسار السياسة الإعلامية المعادية للمقاومة في لبنان؟ بالطبع لا. وليس متوقعًا منها بالأصل أن تقف ولو نفاقًا في جهة الأرض وأهلها، ولا أن تتمتّع بالحدّ الأدنى من المهنيّة والحرص على المصداقية. فالمؤسسات التي حرّضت على المدنيين وعلى المؤسّسات المدنية كالقرض الحسن والهيئة الصحيّة ومدارس المهدي (عج) لن تستفيق اليوم من سبات التبعية والخيانة، لكنّها كلمة حقّ في محضر إعلام الباطل: كفّوا عن الترويج للخبر "الإسرائيلي"، لا حفظًا لمصداقيّتكم الساقطة أصلًا من أعيننا، بل حفظًا لكرامتكم المهنيّة في عين من يكتب لكم التعليمة والخبر!