اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي حرب النفط الأميركية على الصين واستسلام أوروبا أمام ترامب محط اهتمام الصحف الإيرانية

نقاط على الحروف

أنقذوا لُغتَنا الإعلامية
نقاط على الحروف

أنقذوا لُغتَنا الإعلامية

195

صحافية لبنانية

الشهادات تتكاثر واللغة تتراجع. إنه واقع الكتابة الإعلامية اليوم بفضلِ مئات المُنتسبين الى المِهنة. كبارُ المراجع في عالم الصحافة، وأولئك المُتمرّسون في الصياغة وترجمة الأفكار والمعلومات الى نصّ إعلامي بائن ومفهوم، أضحوا يعجزون عن تفكيك الألغاز التي تُكتب لأسماءٍ يُفترض أنها لامعة. 

قبل عشرين عامًا، في الحدّ الأدنى، كان جمهور قراء الصحف ينتظر مقال كاتب صحافي مطّلع على مشهد السياسة. صحيحٌ أن ثورة التكنولوجيا وتطوّرها السريع قلبت وسائل الإعلام وآليات انتشارها وأشكالها، لكنّ الثابت في كلّ ذلك هي اللغة الإعلامية. رغم كلّ هذا التطوّر التقني، وتقدّم الإعلام الالكتروني على الصحف والجرائد والمجلّات، لا يمكن القول إن الحاجة الى لغة مشدودة، متينة، وسليمة قد توقّفت، بل ربّما باتت أكثر من ضرورية ويستحيل الاستغناء عنها. 

يقترن يوم اللغة العربية بالكتابة الإعلامية اليوم، وليس فقط بمناهج التعليم التي تحتاج فعلًا الى خُطّة مُتكاملة تُعيد بريق اللغة الى سابق عهدها، بعدما سلبتها إياه اللغات المُستوردة في المدارس والجامعات. لماذا؟ لأنّ المُفارقات كثيرة اليوم في الصحف والقنوات والمواقع الإخبارية وصولًا الى المنصّات الإخبارية عبر التطبيقات المُختلفة. هناك قاعدة يُعمل على تكريسها في كلّ أشكال الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب والشامل لكلّ ذلك، أن الأولوية لم تعُد للغة المُحكمة، بل تلك الخالية من أيّة مصطلحات قيّمة، وكأنّنا أمام مهمّة لمُخاطبة صغار العقول الذين لن يستطيعوا استيعاب ما يقرؤون أو يسمعون. 

وبمناسبة الحديث عن المُفارقات في الإعلام، يُلاحظ أن أساتذة اللغة العربية وآدابها لا ينجحون جميعًا في مهمّة الانتقال الى كتابة المقالات والأخبار. وكذلك الحال بالنسبة لبعض من يُكلّفون برئاسة هيئات التحرير في الصحف ووسائل الإعلام. أين تكمن المعضلة؟ الى الآن، لا تبدو الصورة واضحة. قد يكون غياب الخِبرة، وصعوبة تكيّف صاحب القلم أو "الكيبورد" اليوم مع طريقة نقل الفكرة أو المعلومة الى المُتلقّي عبر الوسيلة المُستخدمة: موقع إلكتروني أو محطة تلفزيونية. 

لسنواتٍ طويلة، حرص رئيس تحرير مجلة الآداب سابقًا الكاتب الراحل سماح إدريس على تشجيع زملاء المهنة الجُدد قبل القُدامى، لاعتماد تعابير سليمة مُتماسكة لا تُسيء الى لغة الضاد وتضرب مستوى الصحافة في لبنان، حتى أضحى في فترة لاحقة قبل وفاته مُستَفَزًّا بشكل فاقع من الأخطاء الإملائية الكارثية والضعف الذي ملأ النصوص الصحافية والإعلامية على حدّ سواء. ربّما كانت هذه وصيّته الأدبية الأخيرة. 

في عزّ السبعينيات والثمانينيات وصولًا الى ما بعد الـ2000، كان للصحافة عمداؤها. لطالما أغنى الراحلان طلال سلمان وغسان تويني الصحافة بفصاحتهما وبلاغتهما، ولم يستصعبا تعبيرًا ركنا إليه في نصوصهما، فألزما القرّاء بدرجةٍ عالية من الأداء الإعلامي المكتوب. كذلك الحال مع الأستاذ نصري الصايغ الذي رفع مستوى المقالات الى لغة أدبية خاصّة راقية جليّة وواضحة تأسر من يقرأها رغم طول حجمها. هؤلاء لم يتخصّصوا باللغة ولم يحملوا شهاداتها العالية، بل صنعوا فنًّا من الصحافة بمضامين واضحة المعنى. 

قبل مدّة قصيرة، قرأتُ مقالًا لكاتبة صحافية في إحدى الجرائد اللبنانية يتضمّن ما تقول إنها دراسة عسكرية بقالب إعلامي. استغرق الأمر أكثر من ساعة نسبيًا، للانتهاء من إعادة قراءة كلّ فقرة أكثر من مرتيْن الى ثلاثة مع ستين فنجان قهوة، حتى أستنتج الفكرة وما تودّ شرحه وإيصاله. بعد الفراغ، خرجتُ بخلاصة أن المشكلة تكمن في أسلوب الكاتبة المُتعِب والحافل بالحشو والمعاني التائهة والأفكار المشوّشة! 

حسنًا، ليس المطلوب أن نبكي على أطلال صحافة التسعينيات والحقبة التي أعقبتها، لكن الوضوح هو أكثر ما يجب التركيز عليه اليوم في المقالات، التحقيقات والتقارير، والأخبار، وكلّ أشكال الكتابة الإعلامية، كذلك الابتعاد عن التعقيد والغموض والمُراوغة، والإصرار على استخدام الأساليب المباشرة والقاطعة التي لا تحتاج الى مُفسّرين وعلماء ومُدقّقين. لغتُنا تزخر بالبلاغة والمُصطلحات والصفات والنعوت، والصحافة لا يجب أن تفتقر إليها كي تسمو وتُحافظ على مستوى من الاحترافية، كي تبقى ولا تطغى أصوات المُطالبين بالاستغناء عن لغة الضاد. حان الوقت لإنقاذ لُغتنا الإعلامية من الرداءة والانحدار.

الكلمات المفتاحية
مشاركة