اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي عبد القادر: عقل المقاومة الوقّاد

مقالات مختارة

فؤاد شكر... «راوي» المقاومة
مقالات مختارة

فؤاد شكر... «راوي» المقاومة

34

حسين الأمين- صحيفة "الأخبار"

قبل ثلاثة أعوام، وفي أجواء ذكرى مرور 40 عاماً على تأسيس «المقاومة الإسلامية في لبنان»، أو «حزب الله»، كنا في «الأخبار» نبحث عن وسائل وأدوات وأشخاص لرواية تاريخ هذه المقاومة، بطريقة شاملة وسلسة، منذ نشأتها عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، مروراً بالمراحل والمنعطفات الأساسية في تاريخها، كالقتال في بيروت، ثم تحرير الجنوب عام 2000، والتصدّي للعدوان الصهيوني عام 2006. وسرعان ما قادنا البحث إلى عناوين عدة، كان أبرزها الشهيد القائد فؤاد شكر، أو «السيد محسن»، كما كان معروفاً في تشكيلات المقاومة، وحتى في بيئتها.

رُتّب لنا موعد مع الرجل الذي استقبلنا في شقّة عادية جداً، في أحد المباني المرتفعة في الضاحية الجنوبية لبيروت، وسرعان ما عبّر لنا عن استعداده لأداء مهمّة «الرواية»، «قد ما بعرف»، لأن هنالك «توصية» من الأمين العام السيد حسن نصرالله بالتعاون والمشاركة في إحياء «الأربعون ربيعاً». وفعلاً، بدا الرجل مستعدّاً ومتحمّساً لأداء المهمة، وقد حضّر في ملف وضعه إلى جانبه، عدداً كبيراً من الصور والوثائق ومقصوصات من صحف ونصوص ورسائل، جرى ترتيبها وفق مسار زمني يمتدّ من السبعينيات حتى الأعوام الأخيرة.

وبانسيابية وسلاسة، ولكن بانضباطية شديدة أيضاً، انهمرت ذكريات الرجل التي رتّبها بدقّة، وراح يحدّثنا عن المجموعات الأولى التي تولّت تأسيس ثم قيادة العمل العسكري في المقاومة، حتى ما قبل تأسيس تنظيم «حزب الله»، وهي قيادة كان «السيد محسن» واحداً منها.

اليوم، بعدما استشهد الرجل وعدد من رفاقه الأوائل، بات ممكناً الإفصاح عن أسماء وردت كثيراً خلال روايته لأحداث وتفاصيل الشهور والسنوات الأولى لعمل المقاومة، مع وصول قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى منطقة خلدة عند مدخل بيروت الجنوبي.

وكان كلّما ذُكر الشهيدان القائدان عماد مغنية ومصطفى بدر الدين، كان يهمس باسم: «تحسين» أو «أبو الفضل»... وهما؛ الأول الشهيد القائد إبراهيم عقيل، والثاني الشهيد القائد علي كركي. ولا يزال حاضراً في ذهني بدقّة، كيف كان يروي بكثير من العزّة والأنَفة، وهو يقطّب حاجبيه ويشدّ قبضته الكبيرة، ما فعله رفاقه المقاومون الأوائل في خلدة، حيث أصيب مصطفى بدر الدين، وفي الضاحية الجنوبية حيث أُصيب عماد مغنية، وفي بيروت الغربية حيث ضرب إبراهيم عقيل ورفاقه دبابات العدو عند جسر سليم سلام في قلب بيروت، حتى انقلبت دبابة منها على ظهرها أسفل الجسر، ليلتقط أحد المصوّرين هذا «المشهد المذلّ للجيش الإسرائيلي».

وكذلك في الجنوب، حيث «كان جنود العدو وضباطه يستجمّون على شاطئ البحر في صور»، حيث كانت لعلي كركي المساهمة الأكبر في تخطيط وتنفيذ عملية الاستشهادي أحمد قصير وتدمير مقرّ الحاكم العسكري في مدينة صور، بعد شهور قليلة فقط على الاجتياح.

وكان السيد محسن حريصاً جداً على رواية «القصّة» بدقّة. ومع أنه كان يحفظ الأحداث والتفاصيل والأسماء عن ظهر قلب، إلا أنه كان إذا ما شكّ بدقّة معلومة ما، مدّ يده إلى الظرف أمامه، وأخرج وثيقة أو صورة مؤرّخة أو قصاصة من جريدة، أو أوراق تحمل مذكرات كتبها هو بيده، وراجع التواريخ والتفاصيل، وصحّح ما أورده أو أكّده. وكان مهتماً جداً بالتوثيق الدقيق ومن مصادر مختلفة، فأرشدنا إلى مصوّر فوتوغرافي كان قد التقاه في خلدة عقب الاشتباكات مع قوات العدو خلال الاجتياح، وعرف اسمه لاحقاً. وطلب منا أن نحصل من المصوّر على صور التقطها خلال المعركة. وهو ما تمّ بالفعل، وكانت صوراً نادرة وثمينة جداً.

كان «السيد محسن» حريصاً على توثيق الأحداث بدقة ومن زوايا مختلفة، وعلى توصيفها مع الظروف الخاصة والعامة المحيطة. ولذلك، كان يستفزّه جداً تحريف التاريخ الحقيقي للأحداث، وخصوصاً تلك التي تتعلّق بمواقف استثنائية كان أبطالها مقاومين كباراً وشهداء. حتى أنه حدّثنا بانزعاج واضح عن صديق له «انحرج» مرة قبل سنوات طويلة، أمام أحد الأشخاص، واضطر إلى أن يجامله وأن ينسب إليه فضلاً ليس له، في موقف يتعلّق بالمقاومة، ما دفع «السيد محسن» إلى معاتبة الصديق بشدّة، بل وحتى «الزعل» منه لمدّة...

ولا يمكن للمستمع لحديثه، إلا أن يدرك بسرعة أنه أمام عقل منظّم بشدّة. فهو كان يقسّم حديثه أو روايته للأحداث، بطريقة منهجية، وعلى مراحل وفصول زمنية أو موضوعية. فكان يبدأ بالعنوان الأول، وبعد ساعة كاملة مثلاً، يقول «ثانياً كذا وكذا...». ثم بعد إتمام السرد والعرض التفصيلي، ينتقل إلى التلخيص.

فبعد ساعات طويلة من السرد مثلاً، قال: «إذاً، لدنيا نشأتان للمقاومة، نشأةٌ أولى؛ عسكرية تلقائية في بيروت بُعيد الاجتياح وفتوى الإمام الخميني، وسريعاً بعد ذلك تأسيس نواة المقاومة في الجنوب انطلاقاً من الضاحية... ونشأةٌ ثانية؛ كانت الولادة التنظيمية والإدارية واللوجيستية مع قدوم مجموعات حرس الثورة الإيراني إلى البقاع، لتأطير التدريب والإمداد ومواكبة التشكيلات». وأعطى لكل مرحلة سمَتها الأبرز، فالمقاومة في بيروت والضاحية كانت «قتاليّة محض»، وفي الجنوب «سرّية وأمنيّة محض»، أما في البقاع، فكانت «شعبية علنية وواسعة».

ولم تغِب عن الرجل أي مرحلة من مراحل تاريخ المقاومة، فهو لم يغِب أو ينقطع عن المقاومة بالمعنى العملي أبداً، حتى شهادته قبل نحو عام. وهو كان في مواقع المسؤولية منذ السنوات الأولى من عمر المقاومة، ولذلك كانت لديه القدرة على رواية الأحداث من موقع المعاين المباشر والمشارك وحتى المقرّر، منذ 1982 حتى 2024. والآن، وبعد رحيله ورحيل غالبية إخوانه الأوائل، ورحيل السيد حسن نصر الله، كما أرادوا وأحبّوا وتمنّوا، يشعر المرء أنه لكنزٌ عظيم ومكسب وفير، أن تحقّقت لي شخصياً، وكصحافي أن يتاح لي الاطلاع بعيون مفتوحة وواسعة على التاريخ الخفي، وربما السرّي أيضاً، للمقاومة في لبنان، والصراع الطويل والمستمرّ والمتصاعد مع العدو الإسرائيلي.

واليوم، وبعد كل ما جرى خلال العامين الأخيرين، وحتى بعد الضربات القاسية التي لحقت بالمقاومة في لبنان وغزة والمنطقة، وحتى بعد استشهاد «راوينا» نفسه، فإنه بناء على رواية الأربعين عاماً؛ إن المقاومة اليوم، أفضل وأقوى وأصلب بكثير مما كانت قبل 40 و30 وحتى 20 عاماً، والعدو يبدو أضعف بكثير مما كان عليه في تلك السنوات...

الكلمات المفتاحية
مشاركة