اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي مساعد قائد قوة القدس لـ "العهد": رسالتي مواصلة درب السيدين الشهيدين

مقالات

هل تصبح الصين القوّة المقررة في
مقالات

هل تصبح الصين القوّة المقررة في "الشرق الأوسط"؟ 

103

عاد "الشرق الأوسط" ليبرز كساحة مركزية للتنافس العالمي. غير أنّ هذا التنافس يختلف عن مرحلة الحرب الباردة التي شهدت صراعًا أيديولوجيًا وعسكريًا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. فالمواجهة الراهنة أكثر دقة وعمقًا، ذات طابع طويل المدى، وتتمثل أساسًا في تصاعد حضور الصين في المنطقة. إن تجاهل هذا التطور سيكون خطأً إستراتيجيًا جسيمًا من قبل صنّاع القرار الغربيين. 

المسألة لم تعد تدور حول تغيير الأنظمة أو سياسة الاحتواء، بل حول من يضع أسس البنية القادمة للمنطقة: أي من يرسم ملامح المعمار السياسي والاقتصادي والتقني للشرق الأوسط الجديد.

ما لم يعِ الغرب ضرورة إعادة توجيه إستراتيجيته -بحيث تتجاوز الصواريخ وصفقات السلاح واتفاقات وقف إطلاق النار المؤقتة- فقد يستيقظ ذات يوم ليجد أنّ مستقبل "الشرق الأوسط" لم يعد يُصاغ في واشنطن أو بروكسل، بل بشكل متزايد في يد بكين

من الهيمنة العسكرية إلى النفوذ عبر البنية التحتية

على مدى العقود الأخيرة من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، تمحور الدور الغربي في الشرق الأوسط حول البعد العسكري. فقد قادت الولايات المتحدة حروبًا في العراق وأفغانستان، وتدخل الناتو في ليبيا، وساندت قوى غربية فصائل مختلفة في سورية. ورغم أن هذه التدخلات أظهرت التفوق العسكري الغربي وأسقطت أنظمة، إلا أنها تركت وراءها دولًا مفككة، وأزمات مستعصية، وتراجعًا في الثقة بالوعود الغربية حول الديمقراطية والتنمية.

في المقابل، تجنبت الصين التورط في النزاعات المسلحة، واتبعت إستراتيجية قائمة على الاقتصاد والبنية التحتية. من خلال مبادرة "الحزام والطريق"، عملت بكين على تعزيز صورتها كقوة تبني وتستثمر بدلًا من أن تهدم وتفكك. مشاريع الموانئ في الخليج، وخطوط السكك الحديدية في المشرق، واتفاقيات الطاقة مع دول الخليج، والتعاون التكنولوجي في شمال إفريقيا، كلها شواهد على إستراتيجية صينية تسعى للاندماج العميق في النسيج الاقتصادي للمنطقة.

وبينما يئن "الشرق الأوسط" تحت وطأة الحروب، فإن هذا النهج القائم على التنمية يعكس صورة شريكٍ براغماتي يوفر الاستقرار والازدهار على المدى البعيد، وهو ما يلقى صدى إيجابيًا لدى قادة المنطقة. 

الطاقة والتكنولوجيا والتموضع الإستراتيجي

تحتلّ الطاقة موقعًا محوريًا في الإستراتيجية الصينية. إذ يعتمد الاقتصاد الصيني على "الشرق الأوسط" لتأمين أكثر من 40 بالمئة من وارداته النفطية، وتتصدر السعودية والعراق قائمة المورّدين. وعلى خلاف الغرب الذي كثيرًا ما استخدم سلاح الطاقة لأهداف سياسية، تعرض بكين نفسها كـ "مستهلك موثوق"، وتدفع باتّجاه علاقات تبادلية مستقرة. وبهذا، وجدت دول الخليج في الصين شريكًا اقتصاديًا مكمّلًا للحماية العسكرية الغربية التقليدية.

غير أنّ طموحات الصين تتجاوز النفط بكثير. فقد رسخت شركات مثل هواوي وزد تي إي وجودها في البنية التحتية التكنولوجية للمنطقة، بدءًا من شبكات الجيل الخامس في الخليج وصولًا إلى مشاريع "المدن الذكية" في مصر والسعودية. هذه المشاريع ليست تجارية فحسب، بل إستراتيجية أيضًا، إذ من يسيطر على البنية الرقمية للمنطقة يملك القدرة على توجيه تدفق البيانات والاتّصالات، وبالتالي التأثير في المجال السياسي والاجتماعي. 

في موازاة ذلك، تتحرك الصين بحذر لتثبيت وجود عسكري لوجستي يواكب مصالحها الاقتصادية. فافتتاح أول قاعدة بحرية صينية خارج حدودها في جيبوتي عام 2017 كشف استعداد بكين لتأمين خطوط إمدادها التجارية. وهذا التموضع في الخليج والبحر الأحمر وشرق المتوسط يشير إلى تداخل متزايد بين الاقتصاد والبعد الأمني في إستراتيجيتها. 


دبلوماسية بديلة

لم تقتصر مقاربة الصين على الاقتصاد والتكنولوجيا، بل امتدت إلى لعب دور دبلوماسي فاعل. ففي مارس 2023، نجحت بكين في رعاية اتفاق تاريخي بين السعودية وإيران بعد عقود من العداء والتنافس الذي غذّى صراعات في اليمن ولبنان وسورية. كان لهذا الاتفاق أثر بالغ الرمزية والعملية، إذ أثبت أن القوى الإقليمية باتت تثق بقدرة الصين على التوسط في ملفات معقّدة، في وقت فشل فيه الغرب في أداء هذا الدور. 

هذا التطور مثّل صدمة لصناع القرار الغربيين. فالصين، بخطابها القائم على "عدم التدخل" واحترام السيادة، بدت أكثر قبولًا من خطاب الغرب المشبع بالمواعظ حول الديمقراطية وحقوق الإنسان. بالنسبة لدول تسعى للاستقرار وبقاء الأنظمة، فإن بكين توفر نموذجًا للتعاون غير المشروط سياسيًا. 

العمى الإستراتيجي في الغرب

تكمن خطورة الموقف الغربي في تمسكه برؤية تقليدية عسكرية الطابع. فواشنطن وبروكسل لا تزالان تعتبران أن النفوذ يُقاس بصفقات السلاح وقواعد الجيش والتحالفات الأمنية. غير أن السؤال الأهم اليوم هو: من سيبني مستقبل المنطقة على صعيد الاقتصاد والتكنولوجيا والحوكمة؟


المؤشرات الحالية لا تصب في صالح الغرب. إذ يزداد عدد الطلبة العرب في الجامعات الصينية، وتستثمر الصناديق السيادية الخليجية في الشركات الناشئة الصينية، فيما تتّجه طرق التجارة أكثر فأكثر نحو آسيا. وهذه الروابط التعليمية والثقافية -رغم خفوتها أمام ضجيج الدبابات والطائرات- تعكس تحولًا أعمق في موازين النفوذ.

كما أن تراكم الإخفاقات الغربية زاد من أزمة المصداقية: فشل إعادة بناء العراق بعد 2003، الفوضى التي خلفها الانسحاب من أفغانستان عام 2021، والعجز المزمن عن حل القضية الفلسطينية. كلها عوامل قوضت الثقة بالغرب، بينما تظهر الصين بمظهر الشريك الثابت الذي يقدم التنمية لا الفوضى.

توقعات للمستقبل 

يتمثل الصراع الحقيقي اليوم في تلمس آفاق المستقبل، وهو يتجاوز الحدود العسكرية والسياسية ليشمل ممرات البنية التحتية من سكك حديدية وموانئ وأنابيب تربط "الشرق الأوسط" بآسيا وإفريقيا، والأنظمة الرقمية عبر تشييد والتحكم في شبكات الجيل الخامس ومنصات الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات، وعمليات تحول الطاقة عبر دعم دول الخليج في مساعيها للتحول نحو الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر والطاقة النووية، وتطوير النظم المالية عبر إدخال اليوان الصيني كعملة تداول عالمية.

 وعبر تفاهمات أمنية لا تكون بالضرورة عبر تحالفات رسمية على النمط الغربي، بل من خلال ترتيبات تكفل للصين حماية مصالحها. وفي هذه المجالات مجتمعة، خطت الصين خطوات ثابتة، بينما كان الغرب غارقًا بصراعات من دون جدوى.

خلاصة 

إن مستقبل "الشرق الأوسط" لا يُرسم فقط في ساحات الحروب أو عبر صفقات الأسلحة، بل في عقود البنية التحتية، ومشاريع التكنولوجيا، وخطوط التجارة العالمية. وإن تمسك الغرب بأدواته التقليدية دون تحديث مقاربته، فسيخسر القدرة على صياغة التوازنات المقبلة. فلقد أثبتت بكين قدرتها على دمج الدبلوماسية بالاقتصاد والتكنولوجيا في رؤية متماسكة. بالنسبة لقادة الرياض وأبو ظبي وطهران والقاهرة، يجعلها ذلك شريكًا لا غنى عنه، بل بديلًا إستراتيجيًا عن الغرب.

ولا يكمن السؤال في ما إذا كان "الشرق الأوسط" سيتّجه نحو الصين بل في ما إذا كان بإمكان الغرب التكيف بسرعة ليظل فاعلًا في مستقبل المنطقة؟ وإن لم يفعل، فإن القرن الحادي والعشرين قد يشهد شرقًا أوسط تُصاغ ملامحه لا في واشنطن أو بروكسل، بل في بكين.

الكلمات المفتاحية
مشاركة