مقالات
يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل "اختلفت مع المؤسسة الحاكمة، التي رفعت شعار مصر أولًا ومصر ثانيًا ومصر أخيرًا، لأنّ مصر في نهاية هذا المسار لن تكون حتّى أخيرًا". وهنا يحذر هيكل من مصيرٍ محتومٍ بالاندثار كأمّة، والتبعية المطلقة كأنظمة، وهذا الشعار هو البوابة الكبرى للتطبيع المُذل، وليس التساكن النديّ.
يتلقف المثقفون هذا الشعار، ثمّ يقومون بتسويقه باعتباره قدحًا من زناد عقولهم، بينما الحقيقة أنّه من بنات أفكار وسادة الحاكم، الذي يعتبر كرسيه الغاية، التي يجب تسخير كلّ الوسائل لحمايته وديمومته، وسيلة الشعب ووسيلة الوطن، وسيلة الحدود ووسيلة الأمن القومي، وسيلة الدين والعروبة، وعلى رأس كلّ تلك الوسائل وسيلة فلسطين، فكلّ شيءٍ قابل للتسخير في سبيل غاية العرش.
ونلاحظ اليوم أنّ مثقفي اليوم، ورثة شعار الأمس، دخلوا مرحلة متقدمة من تطوير ذلك الشعار، فلم يعد شعار القطر أولًا، بل أصبح الشعار أكثر وضوحًا، وصار"إسرائيل" أولًا، بغضّ النظر عن تعدد الصياغات، فكلها تؤدي لنتيجةٍ واحدة، وهي الاستسلام أولًا.
ويتم تقديم الاستسلام باعتباره المصلحة العليا للشعب والوطن، كما يفعلون اليوم بمطالبة حزب الله وحماس بالاستسلام، باعتباره أولًا، حتّى قبل أن تقدّم "إسرائيل" أيّ تنازل، أو حتّى مجرد التزامٍ بما اتُّفق عليه، وهذا يعني "إسرائيل أولًا"، لأنه استسلام لصالحها وحدها لا غيرها.
وإذا قُيّض لهم النجاح في فرض هذا الشعار اليوم، فشعار المستقبل سيكون...، لن يكون هناك شعارات مستقبلية، لأنّه الفخ لا الجائزة، فقد اعتقد الجيل الأول من النخب رافعي شعار "القطر أولًا" أنّ التنمية والاستقرار هما جائزة الشعار، لكنّه كان الفخّ نحو شعار "إسرائيل أولًا"، وشعار الاستسلام تحت أوهام جائزة الهدوء والاستقرار مجددًا، سيكون هو فخّ الاندثار والشتات.
وهنا قد يعتقد البعض أنّ هذا نوعٌ من ادعاء امتلاك الحقيقة الكاملة، وأنّه نوعٌ من الحجر الثقافي، على قاعدة من ليس مع المقاومة فهو مع "إسرائيل"، ولكن لنفترض تفهمًا لمن يختلف مع المقاومة، باعتبار أنّهم مترفو الألم جيّاشو المشاعر، وأنّ تكلفة المقاومة باهظة لا تحتملها رقّة سرائرهم، أو باعتبار أنّ المقاومة أثبتت عدم جدواها، أمام قدرات الكيان.
هذا طبعًا مع استثناء الذين يرفعون شعار "إسرائيل أولًا" والاستسلام أولًا، من خلفية ارتباطاتهم الحزبية غير المباشرة مع الكيان، أو الاستخبارية المباشرة معه، باستثناء هؤلاء - فهذا الخطاب ليس موجهًا لهم - فإنّ المثقف الذي يوجه سهام انتقاداته للمقاومة، عليه أن يكون شديد الحرص، ألّا تتقاطع سهامه مع سهام العدو، وإن حدث التقاطع عن غير قصد، عليه مراجعة أوراقه، لأنّه يوحي بأنّ انتقاداته، منبعها الحرص المرصّع بأخلاقياته الوطنية والسياسية، أمّا الإصرار على الاختلاف، المؤدّي للتصادم مع نهج المقاومة والتقاطع مع رغبات "إسرائيل" وأهدافها ومصالحها، فلا يعدّ الأمر اختلافًا على الوسائل، بل يصبح صدامًا مع الوطن ومواطنيه ومصالحهم، بل تآمرًا على دمائهم ومصائرهم.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، وعلى سبيل الاختبار، فقد قال الشيخ نعيم قاسم في إطلالته الأخيرة عن خروقات العدوّ المستمرة لوقف النار "لكل شيءٍ حدّ"، فكيف ترى وقع هذا التصريح على قريحتك الثقافية؟ هل تراه مدعاةً للاختلاف المزمن؟ وأنّه يزيد من هوّة الفجوة؟ أم تراه كوّة في جدار الثقة السميك مع المقاومة؟.
إنّ الوقت الذي يشتريه حزب الله بالدم، يجب أن يكون موضع إكبارٍ لا اختلاف، لأنّه يُعتبر افتداءً لكل لبنان، أمّا إن كان هذا مصدر اختلافك، باعتباره دليل انهزامٍ، وبالتالي لا جدوى من التمسك بالسلاح، فتصريح الشيخ نعيم قاسم، يجب أن يكون بمثابة الرتق لمصدر اختلافك، وفرصة لإعادة ترتيب أوراقك.
إنّ الجوائز لا تكون على شكل استسلام، ولا جوائز مع التنازلات، إنّه الفخّ الذي تُساق إليه مفتوح العينين، الفخّ الذي سيجعل منك أسهل الفرائس، فيما أنت تتشدق بمصطلحاتك الفارهة وتلوك ثقافتك الطازجة، التي اكتشفتها بعد قراءتك كتابًا عن اكتشاف النار، فالثقافة هي أن تنحني إجلالًا للدم، وتجعل مدادك امتداد قارة، لا أن تركع خضوعًا للنار، ومدادك عبدها.