مقالات
كاتب من لبنان
لفترة طويلة، كان لبنان وسورية مرتبطَين بمصير واحد، بينما كانت الضغوط الأميركية و"الإسرائيلية" منصبّة على فصلهما، في أوج المحاولات خلال تسعينيات القرن الماضي لإحداث خرق يتيح الاستفراد بكلّ منهما، ولا سيما بلبنان.
اليوم بعد إسقاط سورية وضمّها إلى المعسكر الأميركي، نجح الأميركي و"الإسرائيلي" في إحداث مسارين داخل المسار اللبناني نفسه: يتحدث العدوّ بثقة عن فصل المفاوضات في الناقورة عن عملياته الحربية في الأراضي اللبنانية، ويردّد مسؤولون لبنانيون هذا الأمر وراء العدوّ من دون اعتراض أو تحفّظ، كأنه أمر طبيعي: تفاوضٌ وقتال على سطح واحد في الوقت عينه، وفق قواعد ومعايير يمليها الاحتلال على طاولة المفاوضات وفي الميدان.
تستسلم الدولة اللبنانية لهذا المنطق العدواني، مُعْرضةً صفْحًا عن حجم التنكيل اليومي بحق مواطنيها وممتلكاتهم، وتمتنع عن أي ربط بين استمرارها في المفاوضات ووقف العدوان الجوي والبري على أراضيها. سلَّمتْ مسبقًا بضعفها وعجزها عن تقديم أي مطلب أو تحقيق أي مكسب، ما يجعل المفاوضات خسارة محقَّقة قبل أن تصل إلى خط النهاية.
منذ أن طرأ تغيير على تركيبة لجنة وقف النار "الميكانيزم" وإدخال ممثل سياسي إليها، لم تعد وظيفة اللجنة مجرد الحديث عن وقف إطلاق النار، وهو لا يطبَّق إلا من الجانب اللبناني فحسب، بل أصبحت اللجنة تبحث عن مستقبل العلاقة بين الجانبين. وهذا ما نلمحه في تصريحات الفريقين، وإن كان الجانب "الإسرائيلي" أكثر جرأة في التعبير عن آماله في تطبيع اقتصادي، ابتداء من المنطقة الحدودية، كمدخل لاتفاق ثنائي أوسع.
ويمكن أن نلاحظ ملامح التحول الحاصل في الموقف الرسمي اللبناني في ما يأتي:
1. تخلّى لبنان عمليًا عن حقه في إثارة الانتهاكات "الإسرائيلية" سواء من خلال لجنة "الميكانيزم" أو في المحافل الدولية. وتمرّ الانتهاكات "الإسرائيلية" المتمادية لوقف النار من دون أي موقف رسمي تقريبًا، وأصبحت الحجة الشائعة "مش كلّ اعتداء لازم نطلّع بيان!". ويعكس هذا العجز عن إصدار موقف كلامي تنصلًا من أية مسؤولية عن متابعة ما يتعرض له المواطنون اللبنانيون وممتلكاتهم على يد جيش الاحتلال، وبات هناك نوع من التطبُّع مع الاعتداءات "الإسرائيلية" كأمر واقع يجب التعايش معه إلى حين التوصل إلى اتفاق يرضي الطرف المعتدي.
2. تحوَّل الجيش اللبناني إلى طرف مسؤول عن التحقّق من الادّعاءات "الإسرائيلية" عن وجود أسلحة في القرى الجنوبية؛ في منازلها أو في أوديتها وسهولها، بينما لا يوجد أي تعهد من جانب العدوّ لإيقاف ممارساته التي توقع شهداء وجرحى وخسائر مادية جسيمة.
3. ثمة انسياق مع الذرائع الأمنية "الإسرائيلية" يتعدى الجانب الميداني إلى المستوى السياسي، من خلال تبني السردية "الإسرائيلية" على لسان بعض المسؤولين (وزير الخارجية نموذجًا) وتبرير التوجّه "الإسرائيلي" للتصعيد والقول إن جُلّ ما تستطيع الحكومة اللبنانية فعله هو العمل على "تحييد المرافق العامة" و"تقليل الأخطار المحتملة التي قد تطال البنية التحتية الحيوية" في حال شن "عملية عسكرية واسعة" ضدّ لبنان. وأضحت المعادلة القائمة: "إسرائيل تحتفظ بحق الاعتداء، بينما يقتصر دور لبنان على تحييد المرافق العامة" و"تقليل الأخطار". وفي هذه الحالة، تتّخذ الحكومة اللبنانية وضعية الحياد، بدلًا من أن ترفع الصوت وتتّخذ موقفًا صلبًا لوقف هذا التغول على أمن لبنان، على الأقل لاكتساب ثقة المواطنين الذين تدَّعي رعاية شؤونهم.
4. الأخطر في هذا المجال هو القبول اللبناني الضمني بمبدأ فصل المفاوضات عن استمرار العدوان "الإسرائيلي". فهذا الفصل لا يشكّل فقط سابقة خطيرة واستقالة عملية للدولة من مسؤولياتها في حماية مواطنيها، بل يمثل رفعًا للغطاء السياسي الرسمي عن أمن اللبنانيين، ولا سيما أولئك الذين يتعرضون للاعتداء يوميًا. كما يسمح هذا المنطق لكيان العدوّ باستخدام الضغط العسكري أداةً تفاوضية، من دون أن يتحمل أي كلفة سياسية، فيما يُطلب من لبنان الاستمرار في التفاوض وكأن شيئًا لا يحدث على أراضيه.
مع التطورات الأخيرة، تدخلُ المفاوضات بين الجانبين اللبناني والصهيوني في الناقورة مرحلة جديدة، لا يمكن فصلها عن التحولات الأوسع في الإقليم، ولا عن إعادة ترتيب الأولويات الأميركية- "الإسرائيلية" في لبنان والمنطقة. ويمثل لقاء نتنياهو - ترامب محطة للاستقواء وزيادة الضغوط على لبنان والجبهات الأخرى المفتوحة في المنطقة، الأمر الذي يستدعي تحصين الموقف اللبناني لدفع المخاطر الآتية، بدلًا من تقديم المزيد من الإغراءات المتمثلة بالتنازل عن مطلب وقف النار فورًا وانسحاب جيش الاحتلال.
ومن دون شك، يستفيد العدوّ من الإنقسام اللبناني حول جملة من القضايا ومن ضمنها النظرة إلى كيفية مواجهة المخطّطات "الإسرائيلية"، وهذا الأمر بالتحديد يشجّعه على تشديد سياساته والتلويح بالتصعيد. كما يستفيد من الدعم الأميركي المفتوح سياسيًا وعسكريًا، وهو الأمر الذي يؤثر بصورة جلية على الحكومة اللبنانية التي تتعامل مع التوجّهات الأميركية بوصفها قدَرًا لا يمكن الفكاك منه، وقد تَرجمت ذلك بقرارات 5 آب/ أغسطس الماضي وبتصريح رئيس الحكومة مؤخرًا بشأن انتقال خطة نزع السلاح إلى شمال الليطاني، من دون انتظار أي التزام "إسرائيلي" بموجبات وقف النار.
ويتضح بعد الجولة الثانية من اجتماعات الناقورة بنسختها "المدنية" أن تعيين السفير السابق سيمون كرم رئيسًا للوفد اللبناني لم يخدم هدف منع التصعيد، بل إنه يكيّف المفاوضات مع جدول أعمال جديد تُمسك "إسرائيل" بمِقوده، فيما يتحول لبنان الرسمي إلى راكب لا يعرف وجهته. وستكشف الأسابيع المقبلة إن كان لبنان مهتمًا بالخروج من هذا الدور إلى فاعل يحدد مساره الذي يؤمّن المصالح الوطنية الكبرى، أم أنه سينصاع لمعادلة تُفرغ السيادة من مضمونها وتترك المواطن اللبناني تحت رحمة تهديد دائم. وهنا محك الاختبار الحقيقي لشعار "استعادة قرار الحرب والسلم".