مقالات
خلفية المعركة
ينشط حزب الله كقوة فاعلة في جنوب لبنان. وقد حظي بدور مقاوم منذ سنوات طويلة في مواجهة الاحتلال "الإسرائيلي" في المنطقة. في أيلول 2024، أقدمت "إسرائيل" على شن عدوان بري وجوي في جنوب لبنان. وذكرت تقارير إعلامية أن الجيش "الإسرائيلي" نشر خمس فرق بتشكيلات كبيرة في جنوب لبنان، ضمن عملية برّية موسّعة.
إحدى هذه العمليات البرّية قامت بها الفرقة (الـ١٤٦) في المنطقة الغربية من جنوب لبنان، ضمن ما وصف بأنه عملية برّية محدّدة لمواجهة بنية المقاومة.
بالإضافة إلى ذلك، واجهت المقاومة ظروفًا صعبة، بما في ذلك ضربات استخباراتية واستهداف القيادات وعلى رأسهم الأمين العام لحزب الله الشهيد حسن نصر الله في غارة "إسرائيلية" في الضاحية الجنوبية لبيروت، ما شكّل صدمة كبيرة.
الضربات القاسية وتداعياتها
١ - استهداف القيادة العليا: قيادة حزب الله، ومن ضمنها الشهيد السيد حسن نصر الله، تعرضت لضربة جوية مركّزة في ٢٧ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٤، في ضاحية بيروت الجنوبية، حارة حريك، حيث كانت قيادة المجموعة في غرفة عمليات تحت الأرض.
هذا الاستهداف تغيّر فيه كثير من قواعد اللعبة، إذ أضعف رمزية الزعيم والتنسيق المباشر للقيادة العليا.
كما سبقها عملية "البيجر" الإرهابية التي أخرجت نحو ٤ آلاف عنصر من المعركة.
٢ - التحديات الميدانية: بالرغم من أن "الإسرائيليين" نشروا تشكيلات كبيرة (خمس فرق) فإنهم فشلوا في تحقيق السيطرة الميدانية في جنوب لبنان حتّى بعد ثلاثة أسابيع من الهجوم برّيًا.
وكان واضحًا أن المقاومة - محليًا وقواعديًا - ظلت تفاجئ القوات "الإسرائيلية" بالمقاومة، وبتحركات تكتيكية غير متوقعة.
٣ - الحالة المعنوية وصمود المقاتلين: رغم الضربات الاستخباراتية والعمليات الجوية الضخمة، رفع أهل جنوب لبنان رؤوسهم ولم يستسلموا للذعر وتحدّوا الإرهاب "الإسرائيلي" وصمدوا أمام الدبابات.
هذا الأمر مهم لأن الصمود حتّى عندما تبدو المعركة مستحيلة تقريبًا، يعطي بعدًا نفسيًا وإستراتيجيًا: أن لا للاعتراف بهزيمة، ولا الفرار، بل البقاء على الأرض والمواجهة.
لماذا استمر الصمود؟
يمكن تفسير الصمود بمزيج من العوامل التالية:
العمق المحلي والمعنوي: المقاومة من الجنوب اللبناني ليست مجرد قوة عسكرية، بل جماعة لها جذور محلية، ومعنويات مرتفعة، وشعور بأن الأرض هي جزء من الهوية. هذا يقلّل احتمال انهيارها بسرعة حتّى أمام ضغط كبير.
اعتماد أسلوب حرب غير تقليدية: بدلًا من المواجهة المفتوحة الكلاسيكية، إن المقاومة اعتمدت أساليب تموضع، مباغتة، معرفتها بالأرض، وحواجز طبيعية، مما صعّب مهمّة الفرق "الإسرائيلية" التي تعمل ضمن تكتيك "قوات كبيرة/اختراق مباشر". حيث إن القوات "الإسرائيلية" لم تسيطر على أيّ منطقة رغم العملية.
تأثير الضربة على القيادة وليس على كلّ البنية: رغم اغتيال القائد، بقيت بنية الحزب والمقاتلين موجودة، ما يدلّ على أن الهيكل التنظيمي كان قد تم توزيع مهامه مسبقًا، أي أن الضربة لم تعنِ انهيارًا فوريًا.
حافز المقاومة (وجود عدو، إيمان بالهدف، وإجماع شعبي): وجود العدوّ "الإسرائيلي" والمطالبة بتحرير الأرض يعطيان دافعًا قويًا. هذا الدافع غالبًا ما يظهر في مثل هذه المواجهات كمعنوية ثمينة.
التحديات التي واجهتها المقاومة
وعلى رغم الصمود المثير، ثمة تحديات مهمة:
غياب القيادة المركزية العليا بعد اغتيال القائد: استهداف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله وغيره اُعتبر ضربة رمزية كبيرة، ربما أضعف التنسيق، وفرض على المقاومة العمل تحت قيادة ميدانية أقل ظهورًا.
العدو يملك أفضلية تكنولوجية وجوية وبرّية: من الجانب "الإسرائيلي" شاركت خمس فرق وعمليات برّية وجوّية كثيفة.
تكلفة الحياة والبنية الميدانية: الضربات الجوية والهجمات البرّية تعني خسائر مادية وبشرية كبيرة، وربما ضغطًا على مناطق الإمداد وخطوط الحركة.
الضغط الدولي والإقليمي على لبنان والمقاومة: بعد الضربة الكبرى، كان هناك ضغوط تهدّد بفرض تسوية أو تغيير معادلة القوّة في لبنان.
كيف تبدّت المواجهة على الأرض؟
بدأ العدوان "الإسرائيلي" بعمليات برّية من عدة محاور جنوب لبنان، ولكن وبعد ثلاثة أسابيع، "لم تتحقق السيطرة" لدى الجيش "الإسرائيلي".
المقاومون استغّلوا التضاريس، دعم السكان المحليين، وأسلوب الكمائن، الهجمات الصغيرة، التراجع الذكي.
في وسط الصدمة بعد اغتيال القائد، المقاومة ومعها المجتمع المحلي في الجنوب لم يستسلما للهزيمة النفسية. هذا عنصر مهم: بقاء "النفس" والروح المعنوية والفداء بحيث إنه حسب ثقافة المقاومين، إن الغالي خسرناه فلم يبقَ شيءٌ لدينا نخسره.
ما الدرس الإستراتيجي؟
الضربات التي تستهدف القوام القيادي قد تكون مهمة، لكنّها لا تكفي في حدّ ذاتها لهزيمة مقاومة منتمية شعبيًا ومتمترسة.
السيطرة البرّية الكبيرة، حتّى مع خمس فرق، لا تعنى بالضرورة تحقق الهدف إذا لم يُؤمن الحكم المحلي أو يُكسر إرادة الخصم.
المقاومات الطويلة الأمد تعتمد على متغيرات "الوقت"، "المكان"، "الدعم المحلي"، و"القدرة على التكيّف".
من جهة أخرى، العدّو سيحاول دائمًا استغلال التفوق التكنولوجي والتفوق الاستخباراتي، لكن هذا ليس كافيًا في غياب إضعاف معنويات الخصم أو تفريغ الدعم الشعبي عنه.
خلاصة
في سياق مواجهة ضارية بين المقاومة في جنوب لبنان من جهة، والجيش "الإسرائيلي" من جهة ثانية، فإنّ ما حصل، من نشر خمس فرق "إسرائيلية"، وضربة استخباراتية كبرى استهدفت القيادة، وعمليات جوّية وبرّية واسعة، كان اختبارًا عسيرًا للمقاومة. لكن رغم كلّ الضربات، بدا واضحًا أن المقاومة حافظت على "الاستمرار" و"المقاومة" كخيار، ولم تنكسر.
هذا الصمود ليس حتمًا نصرًا فوريًا، لكنّه يشير إلى أن المقاومة ليست مسألة معدات أو قيادة واحدة فقط، بل هي شبكة، هي روح، هي ارتباط بالأرض وبالجماعة.
أما ما سيعتمد عليه المستقبل فهو أن المقاومة أثبتت أنها قادرة على تعويض القيادات، وإعادة بناء القدرات، والمحافظة على الدعم الشعبي، وأما إذا كانت "إسرائيل" قادرة على تحويل التفوق التقني إلى انتصار إستراتيجي مستدام فهذا رهن الأيام والأشهر القادمة التي ستثبت أن النصر حليف المقاومين أولي البأس.