تكنولوجيا

خطة أميركا للذكاء الاصطناعي: سباق الهيمنة العالمي… والعرب غائبون عن خط الانطلاق
الخطة الأميركية للذكاء الاصطناعي هي سباق للسيطرة على المستقبل وليست مجرد تطوير تكنولوجي
تكشف خطة الذكاء الاصطناعي الأميركية (America’s AI Action Plan) الصادرة عن البيت الأبيض في تموز 2025 عن رؤية شاملة تهدف إلى ترسيخ الهيمنة التكنولوجية للولايات المتحدة في العالم. وتحمل الدراسة عنوانًا فرعيًا لافتًا هو "Winning the Race" أي الفوز بالسباق. والمقصود بهذا السباق هو سباق الهيمنة العالمية على الذكاء الاصطناعي.
تنظر واشنطن إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه السلاح الاستراتيجي الأهم في القرن الحادي والعشرين، القادر على إعادة رسم خريطة القوة الاقتصادية والعسكرية والثقافية. فالوثيقة تصرّح بوضوح: من يملك منظومة الذكاء الاصطناعي الأكبر والأقوى، سيضع المعايير العالمية ويحصد النفوذ والمكاسب السياسية والعسكرية.
الخطة ترتكز على ثلاثة محاور رئيسة:
أولًا: تسريع الابتكار في الذكاء الاصطناعي
تدعو الخطة إلى إزالة القيود التنظيمية والقانونية التي تعيق الشركات الأميركية، وتشجع النماذج المفتوحة المصدر، وتربط بين الأبحاث الجامعية والمشروعات الصناعية والعسكرية لضمان التفوق التقني.
ثانيًا: بناء بنية تحتية وطنية عملاقة
تتضمن إنشاء مراكز بيانات متطورة، وتوسيع إنتاج الرقائق والمعالجات داخل الأراضي الأميركية، وزيادة قدرة الطاقة الكهربائية لتلبية متطلبات الذكاء الاصطناعي الذي يحتاج إلى كميات ضخمة من الكهرباء، مع استبعاد أي تكنولوجيا مصدرها دول منافسة.
ثالثًا: قيادة العالم في دبلوماسية وأمن الذكاء الاصطناعي
تهدف إلى تصدير المعايير والتقنيات الأميركية إلى الحلفاء، ومنع الصين وروسيا من فرض أي نموذج بديل في المنظمات الدولية أو الحصول على المعالجات الأميركية.
أخطر ما ورد في الوثيقة
1- اعتبار الذكاء الاصطناعي مسألة أمن قومي، إذ تصرّ الوثيقة على أن التفوق في هذا المجال هو شرط للحفاظ على القوة العسكرية الأميركية، وأن أي تأخر يعني فقدان الريادة العالمية.
2- دمج الذكاء الاصطناعي في الجيش والاستخبارات، عبر إنشاء "ميدان افتراضي للتجارب الدفاعية" وتحويل الذكاء الاصطناعي إلى ركن أساسي في القيادة والتحليل والتخطيط العسكري.
3- استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة هيمنة اقتصادية ودبلوماسية، من خلال تصدير "الحزمة الأميركية الكاملة" من البرمجيات والمعايير، وربط الحلفاء بها، وحرمان الخصوم من الرقائق ومعدات التصنيع.
4- تحكم ثقافي وإعلامي ناعم، إذ تطالب الخطة بأن تكون النماذج الذكية "خالية من الانحياز الأيديولوجي" و"منسجمة مع القيم الأميركية"، ما يعني فرض رؤية ثقافية أحادية على الأدوات التي تُشكِّل وعي البشر حول العالم.
5- دمج الجامعات ومراكز الأبحاث في منظومة الأمن القومي، بحيث تصبح المعرفة العلمية جزءًا من البنية الاستراتيجية للدولة، لا نشاطًا أكاديميًا مستقلًا.
تحاول واشنطن إعادة صياغة علاقة الإنسان بالتكنولوجيا على أساس "القيم الأميركية"، بحيث تصبح أدوات الذكاء الاصطناعي وسائط لتكريس نموذجها السياسي والاقتصادي والثقافي. وفي الوقت نفسه، تُقدَّم هذه الهيمنة بوصفها حماية لـ"حرية التعبير" و"الابتكار المفتوح"، ما يمنحها غطاءً أخلاقيًا أمام الرأي العام العالمي.
لكن هذا التوجه يعني فعليًا أن الذكاء الاصطناعي قد يتحول إلى أداة لتوجيه الرأي العام العالمي، وتوحيد المعايير الثقافية والإعلامية حول رؤية واحدة وهي رؤية من يملك التقنية.
هيمنة الولايات المتحدة على الذكاء الاصطناعي تعني أنها ستتحكم في ثلاثة مجالات حيوية:
1- المعرفة والإعلام، إذ ستُنتج معظم المنصات الكبرى والمحتوى الذكي من بيئة أميركية.
2- البنية التحتية الرقمية، حيث تتركز مراكز البيانات وشبكات التدريب في أراضٍ خاضعة للنفوذ الأميركي.
3- المعايير الدولية، ما يجعل التشريعات المستقبلية منحازة لصالح الشركات الأميركية الكبرى.
بالنسبة للعالم العربي، هذه السيطرة تهدد الخصوصية والسيادة الرقمية، لأن البيانات العربية الشخصية والمؤسساتية قد تصبح مكشوفة عبر المنصات الأجنبية، كما تهدد الثقافة واللغة نتيجة تغلغل القيم الغربية في النماذج اللغوية المنتشرة.
كيف يمكن للعالم العربي أن يحجز له مكانًا تحت الشمس؟
1- بناء رؤية عربية موحدة للذكاء الاصطناعي هو الخطوة الأولى هي صياغة استراتيجية عربية موحدة تحت مظلة جامعة الدول العربية، تُعنى بالذكاء الاصطناعي كقضية سيادية لا تقنية فقط. ويجب أن تضع هذه الرؤية ثلاثة أهداف واضحة:
- الأمن المعرفي لحماية البيانات واللغة.
- التنمية الاقتصادية عبر تسخير الذكاء الاصطناعي للصناعة والزراعة والطاقة.
- الهوية الثقافية التي تصون القيم العربية والإسلامية من الذوبان في الخطاب الغربي.
2- إنشاء بنية تحتية رقمية عربية، فمن دون بنية تحتية مستقلة لن تكون هناك سيادة رقمية، لذلك ينبغي تأسيس:
- مراكز حوسبة عربية عملاقة في دول متعددة ترتبط بشبكة موحدة.
- شبكة ألياف ضوئية عربية لتبادل البيانات البحثية.
- صندوق عربي موحد للذكاء الاصطناعي يمول الأبحاث والشركات الناشئة.
هذه المشروعات يمكن أن تُدار بشراكات عربية – عربية قبل التوجه إلى التعاون الدولي، لتجنب الوقوع في التبعية التقنية.
3- تطوير النماذج اللغوية والثقافية العربية، فاللغة هي هوية الأمة، وامتلاك نموذج لغوي عربي متطور هو سلاح استراتيجي، إذ ينبغي:
- إنشاء بنك بيانات لغوي عربي يضم نصوص الأدب والتراث والعلم.
- دعم مشاريع النماذج اللغوية المحلية في الجامعات.
- تأسيس مراكز بحوث للأخلاقيات الرقمية تضع معايير عربية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الإعلام والتعليم.
بهذا فقط يمكن للعرب أن يشاركوا في إنتاج المعرفة لا استهلاكها.
4- إدماج الذكاء الاصطناعي في التعليم، إذ إن التعليم هو نقطة البداية لأي نهضة فلذلك لا بد من:
- إدخال مفاهيم البرمجة والذكاء الاصطناعي في المناهج من المرحلة المتوسطة.
- تدريب المعلمين على استخدام الأدوات الذكية داخل الصفوف.
- ربط التعليم التقني بالقطاع الصناعي والتجاري لتخريج جيل قادر على الابتكار لا الحفظ.
5- تمكين الاقتصاد العربي من التحول الذكي، إذ يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح محركًا للنمو الاقتصادي من خلال:
- رقمنة القطاعات الإنتاجية (كالطاقة والزراعة والموانئ).
- تشجيع ريادة الأعمال التقنية في المدن الذكية.
- إصدار تشريعات مرنة تحفز الابتكار وتحمي الخصوصية.
كما يمكن إنشاء مناطق حرة للذكاء الاصطناعي تقدم تسهيلات للشركات الناشئة ضمن إطار عربي موحد.
6- تعزيز الأمن السيبراني والسيادة الرقمية، فالأمن القومي في العصر الرقمي يعني حماية البيانات، وهنا يتوجب:
- تأسيس قيادة عربية للأمن السيبراني.
- تطوير نظام إنذار مبكر إلكتروني لمواجهة الهجمات الذكية.
- تشجيع إنتاج برمجيات عربية المصدر وتشفير محلي.
فمن يملك البنية الأمنية يملك القرار السياسي والاقتصادي.
7- ترسيخ فلسفة عربية للذكاء الاصطناعي، فالتقنية ليست مجرد أدوات، بل رؤية للإنسان والعالم.
من الضروري صياغة فلسفة عربية للذكاء الاصطناعي تقوم على:
- مركزية الإنسان وكرامته.
- التوازن بين الحرية والمسؤولية.
- رفض تسليع الوعي أو تحويل الإنسان إلى "مورد بيانات".
هذه الفلسفة تجعل التقنية خادمة للإنسان لا حاكمة عليه.
8- شراكات دولية متوازنة، ليس المطلوب القطيعة مع القوى التقنية الكبرى، بل شراكات عادلة قائمة على نقل المعرفة لا استيراد المنتجات، وعلى العرب المشاركة بفاعلية في صياغة القوانين والمعايير الدولية الخاصة بالذكاء الاصطناعي، ليصبحوا طرفًا فاعلًا في النظام العالمي الجديد، لا تابعين له.
إن العنوان الفرعي للوثيقة الأميركية "Winning the Race" ليس مجرد شعار، بل إعلان نوايا: الولايات المتحدة لا تريد الفوز في منافسة تقنية، بل تريد الفوز في معركة السيطرة على العقول والبيانات والمعايير التي ستحكم العالم لعقود.
أما العالم العربي، فبينما تُبنى المراكز العملاقة وتُصاغ السياسات في واشنطن وبكين وبروكسل، ينشغل العرب بالاستهلاك والتفرّج. لا خطة، ولا استراتيجية، ولا إرادة جماعية توازي حجم التحدي.
إن ترك الساحة الرقمية بلا مشروع عربي هو خيانة للمستقبل قبل أن يكون تقصيرًا في الحاضر. من يكتفي بشراء البرمجيات الأجنبية لن يشارك في صنع القرار، ومن لا يملك بياناته اليوم لن يملك أمنه غدًا. الذكاء الاصطناعي ليس رفاهية فكرية، بل حدود جديدة للسيادة، ومن لا يرسم حدوده بنفسه سيجد غيره يرسمها له. لقد بدأت الأمم سباقها فعلًا، بينما لا يزال العالم العربي ينتظر من يطلق صافرة البداية. فهل نريد أن نكون رقمًا فاعلًا في خريطة الذكاء العالمي أم مجرد سطر هامشي في سجل التبعية الرقمية؟