خاص العهد
في حديثٍ لموقع العهد الإخباري، فتح الأسير المحرر أيهم كممجي، أحد أبطال عملية نفق الحرية في سجن جلبوع، صفحاتٍ من ذاكرةٍ لم تُطوَ، بل ما زالت تنبض بالوجع والعزيمة. حديثه لم يكن مجرّد استعادةٍ لتجربةٍ فردية، بل شهادة إنسانية ووطنية على مسيرة صمود وإيمان، تحكي إصرار الفلسطيني على أن يحيا مرفوع الرأس؛ مهما اشتدّت قيود الاحتلال وتواطأ الصمت العالمي.
الأسر ليس مجرد قيود جسدية
أكد كممجي في مستهل حديثه أنّ "الاحتلال لا يكتفي بتقييد الأجساد، بل يشنّ حربًا على الأرواح، وكل ما في الأسر مصمّمٌ لقتل إنسانيتك، من التفتيش إلى العزل إلى المنع من أبسط الحقوق، لكنهم نسوا أن أرواحنا امتداد من رحمة الرحمن. نحن نُهزم فقط حين ننسى وعد الله بالتمكين والخلافة".
وأشار إلى أن السجن كان بالنسبة له "مختبر الإيمان"، حيث تتجلّى قيمة الحرية الحقيقية. هناك تعلّم أن النور يمكن أن يسكن القلب ولو غابت الشمس، وأن الكلمة يمكن أن تهزم الجدار. ومن تلك التجربة خرج شعر ونثر ووصايا لأجيال لم تولد بعد: "يا من نسيتم فلسطين، نحن نحيا بذكراها، ومن نبعها نرتوي كرامة لا تنضب. النفق صار مجازًا للحرية".
فتح كممجي ملف المعركة النفسية التي يمارسها الاحتلال ضد الأسرى: "لا يترك الاحتلال أي فرصة لينغّص فرحتك أو يشعرك مقيدًا. هو لا يكبح الجسد فقط، بل يحاول كسر العزيمة والإرادة والروح. يلعب على العامل النفسي، لكن عناد شعبنا وإيمانه بحقّه التاريخي والديني في هذه الأرض هما اللذان ثبَّتانا". ويروي كيف أن قبول الأسرى أو الانصياع لما يريده المحققون يعني نجاح الاحتلال، فيما هو يردّ دائمًا بأن الفلسطيني مؤمن بقضيته ولا يُجبر على شيءٍ لا يرضاه ضميره.
وعن مشاهد التحقيق الطويلة والأساليب التي استخدمها الضباط لمحاولة استدراجه أو إغرائه بالمال أو العروض الإعلامية قال: "عرضوا عليّ المال والبرامج التلفزيونية التي يسمونها "العفداء" ليأتي بذلك تفصيل الرواية. قلت لهم: أنا لست للبيع. ما يهمني هو وفائي لقضيتي ولقيمتي. المحامي وقف معي، لكنهم حاولوا إقناعنا وإخافتنا... أنا أردت أن أنام فقط. النوم كان ثورة بسيطة في وجه مقاسيمهم".
وأكد كممجي أن كل جدار يواجه الأسرى الفلسطينيين هو امتحان لضمير العالم، وأن لبنان كان ولا يزال الأرض التي تحتضن الصمود وتقدّم الدعم المستمر للشعب الفلسطيني: "حرية فلسطين تبدأ من زنزانات الأسرى، وكل دعم من لبنان المقاوم هو درس في التضحية، وعنوان للمساندة العملية، وليس مجرد شعارات."
تفاصيل النفق: دور الجماعة وليس الفرد
في أيلول/سبتمبر 2021، دوّى خبر فرار ستة أسرى من سجن جلبوع كالصاعقة في أرجاء الكيان المؤقت. لم تكن العملية مجرد حدث أمني، بل صفعة لغطرسة العدو، ودليلًا على أن الإيمان والعقل والإرادة؛ كل ذلك قادر على هزيمة الحديد والتكنولوجيا.
كممجي الذي كان آخر من أُعيد اعتقاله بعد أيام من المطاردة، يقول اليوم: "النفق كان قبل الطوفان، أما بعد طوفان الأقصى فقد غرق كل شيء. بقي النفق رمزًا روحيًا في وجدان شعبنا، عنوانًا لإرادة لا تموت".، ويرى أن ما جرى في 2021 لم يكن سوى ومضة من الوعي المقاوم، وأن الطوفان في 2023 "فتح نفقًا أكبر، يمتد من غزة حتى الضفة، ومن الضفة إلى كل وجدان عربي حر يعرف معنى الكرامة".
كما أكّد كممجي أن البطولات كانت جماعية: "أنا كنت أحد أعضاء التنظيم الإداري، لكن الأبطال الحقيقيين هم من حفروا وعملوا ليل نهار: مناضل، محمود شريم، قصي مرعي، إياد، علي، محمد وغيرهم. هم من تعبوا وصبروا، وقلّ أن تجد مثل هذا التكاتف والبساطة في العمل إلا إذا كانت النية صادقة والإيمان حقيقيًا".
مرارة غزة وصبرها المعجزة
عن الحرب على غزة، استحضر كممجي الوجع بكل تفاصيله: "مرارة الأسر تتضاءل أمام ما يعانيه أهلنا في غزة. هناك تُختبر إنسانيتنا جميعًا. ما يفعله الصهاينة إبادة، وما يصنعه أهل غزة معجزة صبر وإيمان". وأضاف: "العالم يرى الصور ولا يشعر بالوجع. لكن من يصبر على هذا البلاء يحصد النصر. الصمت أبلغ من أي حديث حين يكون الكلام عاجزًا عن وصف بطولة من يغرسون الأمل بين الركام".
وعن تضحيات أهل غزة قال: "أهل غزة دفعوا كل شيء؛ أنفُسهم، أموالهم، أبناءهم ونساءهم لأجل رسالة إنسانية ولأجل تحرير الأسرى. ما شهدناه من تضحيات يكاد لا يوجد له مثيل حتى في قصص الصحابة إلا ما ندر. هم أحرجوا العالم، وأرعبوا العدو، وقدموا درسًا في التضحية لا ينسى".
رسالة إلى المقاومة في لبنان
ووجّه الأسير الفلسطيني المحرر تحية إلى المقاومة في لبنان، مؤكّدًا أن صمودها هو نموذج يحتذى به في مواجهة الاحتلال، وقال: "من قلب الحرية التي استنشقناها بدماء الشهداء، أبعث تحية حب وامتنان إلى لبنان المقاوم، إلى رجاله الذين صانوا الكرامة وأثبتوا أن العروبة موقف لا شعار. الشكر لكل من مد لنا يده في ساعة الشدّة، ولكل من حمل راية القدس في خطابه ووجدانه، ولكل شهيد عبَّد طريق النصر بدمه الطاهر".
وختم قائلًا: "الكلمات عاجزة عن أي توصيف أمام تضحيات المقاومة، والصمت أبلغ في هذا الباب. وتوجه بالشكر إلى كل من وقف وقفة عملية إنسانية ودعميّة. فالمعركة ليست لحظة انتصار عابر، بل مسلسل طويل من الصراع الذي يتبدّل فيه مستوى القتال والمقاومة دون أن يعني أي ارتفاع أو هبوط في وتيرة المواجهة حسمًا في المعركة الكبرى".