خاص العهد
قرابة الساعة العاشرة والنصف من ليل يوم الأربعاء 23 تشرين الأول 2024، وبعد مرور ثلاثين يومًا على بدء العدوان "الإسرائيلي" الوحشي على لبنان، كانت الطائرات المُسيّرة المُعادية كعادتها تُغطي أجواء محاور القتال في الجنوب كخلية النّحل، لا صوت يعلو فوق أزيز المدافع وغارات الطائرات الحربية وراجمات الصواريخ في تلك الليلة العصيبة، إلا صوت المقاومين الذين يخوضون أعتى المواجهات مع جنود الاحتلال عند قرى الحافّة الأمامية، وصوت آخر لشاب دخل إلى بلدة ياطر من جهة الشمال الغربي في آلية عسكرية. تَقدّم مقاوم نحوه، بادره الشاب بالتعريف عن نفسه: "ضابط في الجيش اللبناني جِئتُ في مهمّة إخلاء جرحى"، وتابع السير. دقائق قليلة تستهدف مُسيّرة وسط البلدة وينقطع الضابط عن السّمع. المقدم محمد سامي فرحات ومن معه شهداء على أرض الوطن.
ما الذي حصل في تلك الليلة؟
في عصر ذلك اليوم أغارت طائرات العدوّ الحربية على منزلين مُتلاصقين في الحي الغربي لبلدة ياطر. مقاوم سمع أحد الجرحى الثلاثة يستغيث طالبًا المساعدة، وطائرات الاستطلاع تغطي المكان. لا أمل في إنقاذهم، مركزا الدفاع المدني في البلدة التابعان للهيئة الصحية والرسالة كانا قد تعرضا قبل أيام لغارات عنيفة وسُوّيا في الأرض، وارتقى في المركز الأوّل المُسعفون الشهداء محمد كوراني وحسن كريم وعلي كوراني، وجميع سيارات الإسعاف استهدفت وخرجت من الخدمة، وبالقرب من إحداها ارتقى سائقها المسعف الشهيد هادي سليم، ولم يعد هناك أي وسيلة لإنقاذ الجرحى.
نتيجة لذلك، تواصل أحد المسعفين في البلدة مع مراكز الهيئة الصحية والرسالة في المنطقة يطلب المساعدة، لكن سيارات الإسعاف وبسبب استهدافها من طائرات العدوّ آثرت عدم المجيء مباشرة لحين انتشار الضباب مع طلوع الفجر. مع تعذّر الإسراع في الوصول إلى الجرحى قبل أن يفارقوا الحياة، وصل الخبر إلى الرائد محمد فرحات من قبل المعنيين مع غروب الشمس. لم يتلكّأ الضابط في الانطلاق لإنقاذهم. وصل إلى بلدة ياطر في جيب "هامر" وسيارة إسعاف مع عدد من الجنود من مدخلها الشمالي الشرقي، لكن كثافة البيوت المهدّمة غطت الطرقات، فعاد ودخل البلدة من مدخلها الشمالي الغربي.

وصل الضابط إلى جبانة البلدة وحدّد مكان الجرحى. تابع السير لمسافة مئة متر. تفاجأ بأن بيت الشهيد نبيل بلاغي قطع الطريق أيضًا، عندها ترجّل وقال لزملائه: "الأعزب فيكن يجي معي والمتزوج يظل بالجيب والإسعاف"، وحمل حمّالة الجرحى وحقيبة الإسعافات الأولية وبرفقته عسكريان اثنان قاصدين البيت المُستهدف. بعد عشر دقائق تقريبًا، قرابة الساعة العاشرة والنصف ليلًا، أغارت مُسيّرة على ساحة البلدة. أحد الجنود المنتظرين كان على اتّصال به، كرّر نداءه مرات عدة: "أَرسل سيدنا، حضرة الرائد انت عالسّمع؟". لا صوت يجيب، ولا أصوات تسمع في سواد ذلك الليل، غير صيحات تكبير لرجال مقاومين يطلقون صواريخ مضادة للدروع "كورنت" من أعلى تلال البلدة باتّجاه دبابات للعدو من نوع "ميركافا" عند تخوم بلدتي عيتا الشِّعب والقوزح. اتصل الجندي بقيادته: "الرائد فرحات ومن معه انقطعوا عن السّمع".
عند الساعة الثالثة فجرًا، وصلت قوة من الجيش اللبناني إلى بلدة ياطر. بعد البحث لأكثر من ساعة وُجد المقدم محمد فرحات والعريف موسى يوسف مهنا والعريف محمد حسين نزال ملقَين على الأرض تحت شجرة بجانب مركز البلدية، شهداء أبطال في سبيل الوطن، يلامسون بأجسادهم العاتية تراب الجنوب كما لامسته جثامين شهداء البلدة، من مسؤول محور الخيام القائد الأسطوري الشهيد محمود صالح وغيره، ليكتمل بذلك المشهد، ويخطّوا بدمائهم من جديد المعادلة الذهبية "جيش وشعب ومقاومة"، كخيار أمثل في مواجهة كلّ غازٍ محتلّ.

الشهيد فرحات ضابط مقاوم شجاع لم يهدأ
منذ بداية معركة "الإسناد" في 8 تشرين الأول 2023، والمقدّم محمد فرحات "لم يهدأ له بال ولم تغمض له عين". هكذا يروي أخوه الأكبر علي في حديث خاص لموقع "العهد" الإخباري، ويقول: "محمد دخل عشرات المرات إلى قرى المواجهة، قرى الحافة الأمامية، في عمليات إخلاء جرحى، وأنقذ العشرات منهم، لا فرق عنده بين الليل والنهار، كان يعرّض حياته للخطر، ومرّات عدة نجا من القصف والغارات". ويضيف: "مع بدء العدوان "الإسرائيلي" في 22 أيلول 2024 لم يغادر محمد الجنوب ساعة واحدة، وكان بشكل يومي يشارك في سحب الجرحى وإخلاء المواطنين العالقين في بيوتهم".
ويستذكر علي حادثة ترسيم الحدود في خراج بلدة عيتا الشِّعب في 5 آذار 2023 عندما حاول العدوّ "الإسرائيلي" التعدي على أرض وطنه من خلال تثبيت سلك شائك عند الخط الأزرق، فتوجّه الرائد محمد حينها مع رفاقه من مكان خدمته في بلدة عين إبل الحدودية، وكان نائبًا لقائد الكتيبة، وأسرع نحو الضابط "الإسرائيلي" ودفعه ونزع الوتد من الأرض قائلًا له "هيدي أرضي" مهدّدًا بإطلاق النار معطيًا الأمر لجنوده: "عسكر بس قلك لقّم بتلقّم". وقد وصفته قيادة الجيش بأنه "مثال في الشجاعة والعطاء، بطل يقف ثابتًا قويًا أمام جنود العدوّ "الإسرائيلي" دفاعًا عن أرضه". وبذلك يكون قد سطّر موقفًا بطوليًا لا يقل أهمية عن بطولاته في مخيم نهر البارد حين واجه التكفيريين.

تلميذ متفوق تربّى على حبّ الوطن
ولد محمد في أيلول 1988 في قرية دير قانون رأس العين قضاء صور، قرية جنوبية وادعة تلامس تلالها وبساتينها شواطئ البحر، تبعد عن قرى الشريط الحدودي بضعة كيلومترات. تربى محمد الطفل في أحياء بلدته وهو يرى الاعتداءات "الإسرائيلية" اليومية من القصف والغارات التي تستهدف قرى التماس الملاصقة لبلدته، "ما ولّد عنده نزعة الحب للوطن والدفاع عنه والكره للعدو"، حسب ما تروي والدته الحاجة زَهِيرة سويدان لـ"العهد".
تتابع والدته: "محمد فقد والده المدرّس وهو في السادسة من عمره. هو أوسط أخويه علي وحسن، وأكبرهم أختان بتول ورنا. حاولت أن أعوّض عنهم اليتم فكنت الأم والأب معًا". وتضيف "لم يؤثر فقد الأب على دراسته، حيث كان تلميذًا مهذبًا متفوقًا في جميع سنواته، وبعض الأحيان كان الأول على مدرسته. كان محبوبًا جدًا من معلميه. تخرّج من مدرسة الجعفرية في صور التي تعلّم فيها هو وأخوته منذ الصغر بدرجة ممتاز، وفي امتحان العلوم العامة نال الدرجة نفسها، كما نجح في امتحانات كلية الهندسة بتفوق".

كيف دخل إلى الكلية الحربية؟
يروي أخوه علي: "كنا في البيت نشاهد التلفاز. ورد خبر عن إجراء دورة تلميذ ضابط في الكلية الحربية. قال محمد أريد أن أتقدم إليها لعلّني أنجح. ضحكنا جميعًا، وقلنا "بدها واسطة ونحنا مش محزبين ولا إلنا حدا بالدولة". أصّر محمد على الفكرة والتحق بامتحانات الضباط، وكان قد بدأ دراسته في كلية الهندسة بالجامعة اللبنانية، بعد فترة ذهب مع عدد من رفاقه ليطلعوا على النتيجة: محمد فرحات ناجح بامتياز".
ويتابع علي: "هكذا أصبح أخي محمد الضابط المُحب للرياضة والسباحة والمطالعة وكتابة الشّعر، الكريم النفس، المتواضع والمحبوب بين رفاقه في الجيش والبلدة. كان على موعد قريب من خطبته فتاة أحبّها، لكن عرسه في الآخرة سيكون أجمل، لأنه استشهد أثناء قيامه بواجب وطني إنساني".

وتقديرًا وتكريمًا لتضحياته الجسام في سبيل الوطن افتتحت قيادة الجيش اللبناني ثكنة باسمه في بلدة كفردونين الجنوبية، كما أطلقت بلدية ياطر وباسم رئيسها الأستاذ حسّان جعفر على ساحة البلدة التي استشهد فيها "ساحة الشهيد المقدم محمد فرحات".
إذًا، الإنسان الذي يحيا حُرًّا ويموت بطلًا من أجل الدفاع عن أرض وطنه وشرف أبنائه، يأبى التاريخ إلى أن يحفر اسمه في ذاكرة كلّ ضمير حي، ويخلده مع الشهداء العظام الذين ضحوا من أجل أمتهم، أمثال السيد موسى الصدر والسيد حسن نصر الله والنقيب محمد زغيب وغيرهم. وبهذا يكون الجيش اللبناني أعطى نموذجًا حيًّا عن صورته الحقيقة في مواجهة العدوّ "الإسرائيلي" وامتزاج دماء شهدائه مع شهداء المقاومة في جبهات الجنوب.
