مقالات مختارة
إبراهيم الأمين - صحيفة الأخبار
صار واضحًا اليوم أن ما ينتظرنا من "إسرائيل" ليس بالأمر الهيّن. والمشكلة لا تكمن في ما يفكر به العدو، بل في طريقة تفكيره. وكلّ تجاهل لطبيعة الحكومة الحالية في الكيان قد يؤدي إلى خطأ جسيم في التقدير، ليس بسبب وصفها بأنها فريق متطرّف، بل لأن صانع القرار فيها أصبح في قلب مؤسسات الدولة الناظمة للقرارات والمشرفة على التنفيذ، سواء في الحكومة أو الجيش أو الأجهزة الأمنية.
وكل الحديث عن تغيير جوهري شهدته "إسرائيل" بعد عملية "طوفان الأقصى" لا ينبغي أن يجعلنا نظنّ أنها كانت تخطط لإدخال تعديلات جوهرية على عقيدتها الأمنية أو القتالية. ما حصل، ببساطة، أنها فوجئت بما قامت به حركة حماس، وأصابها الذهول نتيجة عقدة التفوّق التي تحكم تصرفاتها، رغم أنها في العقود الثلاثة الماضية اضطرّت إلى بعض التواضع. وما حصل، أن "إسرائيل" التي تقوم طبيعتها على القتل والقتل المفرط، وجدت أن الفرصة سانحة أمامها للقيام بما تجيد القيام به: القتل واستخدام القوّة النارية إلى حدّها الأقصى.
لكن، بعد عامين على حرب الإبادة، تجد "إسرائيل" نفسها اليوم أمام واقع مختلف. فهي مضطرة إلى مناقشة عقيدتها الأمنية بجدية، وبانتظار الوصول إلى استنتاجات وقرارات واضحة، لن تحيد عمّا تجيد القيام به: عمل أمني متقدم، تفوّق استخباراتي هائل، وقوة نارية مكثفة. ومع ذلك، تدرك "إسرائيل" أنها، رغم تجاهلها لرأي المعترضين، تعاني من عوارض الدولة المنبوذة. في هذه الحالة، لا يكفي دعم حكومات العالم، لأن من يحمل جواز السفر "الإسرائيلي" سيشعر بالقلق الحقيقي كلما توجه إلى الخارج، بعدما أصبحت الأفضلية التي كان يتمتع بها، مصدر قلق اليوم. فهو يعلم أنه يتحرك براحة لأن هناك قرارًا سياسيًا بذلك، وأنه مع كلّ ابتعاد لحكومات العالم عن مواطنيها، لن تجد "إسرائيل" سوى بضع عشرات فقط يهتفون دعمًا لها في الشوارع.
الإشارة إلى هذا العامل لها هدف واضح: البيئة السياسية والاقتصادية والأمنية والأخلاقية التي تعمل فيها "إسرائيل" اليوم تُعدّ الأضعف في تاريخ الكيان. وهذا ليس بالأمر السهل. وحتّى لو كان الحاكمون في "تل أبيب" يكرّرون صباح مساء أن القوّة هي الوسيلة الوحيدة لضمان بقاء الكيان، إلا أنهم يغفلون عن حقيقة أكثر قسوة: القوّة ليست محلية المنشأ، ولا نابعة من استثنائية هؤلاء الناس، بل هي أساسًا، وقبل كلّ شيء، ناجمة عن كونها قاعدة للاستعمار الغربي. وكلما تغيّرت أولويات هذا الغرب، شعرت "إسرائيل" بالضيق. وحالها اليوم يوضح ذلك، ليس لأن الغرب قرر تعديل إستراتيجية إخضاع شعوب منطقتنا، بل لأن هذا الغرب انتظر "إسرائيل" لعامين، واكتشف بعد كلّ ما حصل من قتل وتدمير أنها خائفة، ولم تتمكّن من حسم أي ملف!
بهذا المعنى، يمكن فهم ما يخطط له العدوّ تجاه جبهته الشمالية، التي لا تتوقف عند الحدود الغربية للكيان فقط، بل تمتد إلى العمق الشرقي. وهذا يعني أن الجبهة الشمالية - الشرقية لـ"إسرائيل" تشمل لبنان وسورية والعراق، وصولًا إلى إيران. وفي هذه المنطقة، تتصرف "إسرائيل" على أساس أنها تواجه جبهة متعاونة ومتفاعلة ومتواصلة أكثر من أي جبهة أخرى، ما يجعل التحديات كبيرة وتفرض اتّخاذ قرارات دقيقة وحاسمة.
وحدها أميركا من يمكنه منع الحرب الكبيرة، لكن عقل الكيان لا يفكر بغير الحرب لأن الإنجازات التي حققها خلال عامين تآكلت إلى حدٍّ بعيد وهو يرى الخطر يبرز أمامه مجددًا
وفي مراجعة شاملة لكل ما ورد إلى لبنان من كلام نقله مسؤولون عاقلون عن رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، وقادته العسكريين والأمنيين، يتضح أن ما لا يُقال علنًا للجمهور اليوم هو إن "إسرائيل" تواجه معضلة جديدة، اسمها: عدم إنجاز المهمّة.
وإذا كانت لعبة التسريبات المكثفة تهدف إلى إعادة تهيئة الرأي العام داخل الكيان تمهيدًا لجولة جديدة من الحروب، فإن المنافسة السياسية الداخلية في قلب كيان العدوّ لها دورها وتأثيرها في هذا المسار. لكن المهم في الأمر أن "إسرائيل" تقدّم سردية جديدة تفيد بأنّ "الأعداء لم يستسلموا بعد"، وأن هناك حاجة إلى ضربة أكبر لإقناعهم بأنّ الاستسلام هو خيارهم الوحيد!
بهذا المعنى، لا يريد قادة العدوّ الإقرار بفشل العملية. فالتطورات الأخيرة مع لبنان والعراق وإيران تكشف أن الإنجازات التي حققوها في عملياتهم الأمنية الخاصة تعرضت للتآكل، مع إقرار بأن جبهة الأعداء في الشمال تكيّفت مع الوقائع الجديدة وتعيد بناء نفسها بطريقة مختلفة عن السابق. كلّ هذا يعني أن العدوّ يتجنّب الاعتراف بفشل الأهداف الإستراتيجية لعمليات العامين الماضيين. وإذا كان المجتمع "الإسرائيلي" لا يميل اليوم إلى محاسبة قادته، فإن هذا لا يعني أن وضع هؤلاء القادة على ما يرام. لكن الجديد أن رعاتهم الخارجيين صاروا، على ما يبدو، مضطرين إلى مراجعتهم في ما قاموا به.
وتكفي الإشارة إلى ما نقِل عن أحد المبعوثين البارزين إلى المنطقة حول كيفية التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب في غزّة؛ إذ أشار إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سأل فريقه الأمني والعسكري عن الوضع في غزّة، وفهم أن "إسرائيل" عاجزة عن فعل شيء سوى المزيد من القتل، وأن الآثار السلبية على مصالح الولايات المتحدة تتزايد يومًا بعد يوم، فبات لزامًا التدخّل ليس فقط لتفادي تفاقم الأضرار، بل حتّى لإنقاذ "إسرائيل" من نفسها. ويُنسب إلى المبعوث أنه سمع ترامب يقول لنتنياهو: "كفى… حان وقت وقف القتال".
ربما أدّى هذا التحوّل إلى فتح مسار جديد لإدارة الملف الفلسطيني. لكن المصريين، باعتبارهم الأكثر خبرة بغزّة وأهلها، كانوا صريحين جدًا مع الأميركيين و"الإسرائيليين" ومع دول الخليج، بأن فكرة القضاء على حماس كقوة عسكرية وسياسية ومدنية هي ضرب من الخيال. ومن لا يستوعب كيف بقيت الحركة واقفة على قدميها بعد كلّ ما حدث، لا يستطيع فهم حقيقة ما يعيشه الشعب الفلسطيني. ولذلك كان الموقف المصري واضحًا في معارضته للمقاربة المعتمدة تجاه لبنان، وهو دعا الجميع إلى التخلي عن فكرة نزع السلاح، مقترحًا بدلًا منها الاتفاق على تجميد فعالية هذا السلاح. وشدّد في الوقت نفسه على أن هذا التجميد ليس بلا ثمن، ويتطلب مقابلًا يجب أن توفره "إسرائيل" والغرب والدول العربية.
لكن في نهاية هذا النقاش كله، تعود "إسرائيل" لتواجه سؤالها المركزي: كيف تتصرّف مع التهديدات القائمة من الشمال والشرق؟
بالنسبة إليها، الحل يبدو دائمًا عبر عمليات عسكرية وأمنية ضخمة، فهي لا تعرف سوى هذا السلاح كعلاج. وما تغيّر عندها ليس استعدادها للذهاب بعيدًا في القتل والتدمير (فذلك لم يعد مفاجأة)، بل أن ما كانت تتبجّح به من قدرة على الدخول إلى رأس حزب الله ومعرفة كلّ ما يفكر فيه وكيف يتصرف وأين يتحرك... لم يعد قائمًا اليوم. وهي تلمس تغييرات جوهرية في سلوك وأداء الحزب، بل حتّى تستغرب من "قدرته على الصبر" وعدم الانجرار إلى ردود فعل فورية على استفزازاتها اليومية. ومع ذلك، "إسرائيل" ليست في مزاج يتيح لها تحمّل المخاطر بعد اليوم، ما قد يدفعها إلى عمل عسكري واسع ضدّ لبنان، وربما يمتد إلى العراق وإيران.
من جهتنا، لا خيار أمامنا سوى الاستعداد الكامل لهذه المواجهة. وإذا نجح العدوّ في المرة الماضية بتفريق صفوفنا وإقناع كلّ طرف بأن يقاتل بمفرده، فواجبنا الأدنى الآن، أن نكون جاهزين لنقارعَه كجبهةٍ واحدة، مهما بدت التضحيات عظيمة، لأن تصحيح مسار التاريخ لا يتحقق بالأمنيات!