خاص العهد
يستذكر ممثل الحكومة اللبنانية لدى "اليونيفيل" سابقاً؛ اللواء الركن المتقاعد د. عبد الرحمن شحيتلي ذلك النهار الذي رفض فيه إكمال المفاوضات بعد حرب تموز 2006، حين لمس في الجلسة الثانية من المفاوضات مماطلة من الجانب "الإسرائيلي". آنذاك، قسّمت "إسرائيل" الجنوب اللبناني إلى 14 منطقة، لتعود وتطالب في الجلسة الثانية من المفاوضات بتقسيم كل منطقة من المناطق الـ14 إلى 4 مناطق، ما يؤشّر إلى مماطلة "إسرائيلية" في عملية الانسحاب. يروي شحيتلي تفاصيل ما جرى وقتذاك، فيقول :"جاءت المروحية لتنقلني من وزارة الدفاع إلى الاجتماع، فرفضت الذهاب قبل أن أتاكد من عدم مماطلة "إسرائيل"، وطلبت تحديد تاريخ انسحاب آخر جندي "إسرائيلي" من الأراضي اللبنانية، فقال لي وزير الدفاع في حينها إلياس المر، إنه أخذ ضمانة بأن "إسرائيل" لن تماطل وستنسحب". وفق قناعات شحيتلي الذي خبِر منذ عام 2005 وحتى عام 2013 عقلية الأميركي و"الإسرائيلي" في التفاوض، هذا ما يجب أن نفعله اليوم، وقبل أي مفاوضات حتى لا تستنزفنا "إسرائيل" بطلباتها على كامل الأراضي اللبنانية"، فالتجربة تُثبت أنه كلّما تنازلت، طالبك "الإسرائيلي" بالمزيد من التنازلات.
تجربة الماضي تبدو ماثلة أمامنا اليوم، حيث تكثر الأصوات الداعية لجنة "الميكانيزم" للاضطلاع بدورها. لكن اللجنة التي تقترب من إتمام عامها الأول على تشكيلها، لم تقم حتى اللحظة بمهمّة واحدة ضمن المهام المرسومة لها. بل على العكس تمامًا، يقول مراقبون، إنّ هذه اللجنة التي أنشئت بموجب "اتفاق تشرين" للإشراف على تطبيق وقف إطلاق النار، كانت منذ اليوم الأول إطارًا شكليًا فقط، ليمعن العدو "الإسرائيلي" في اعتداءاته. أكثر من ذلك، هي إطار لتمرير الوقت فقط، وتسجيل أكبر قدر من الاعتداءات "الإسرائيلية". ولا غرابة في ذلك، فمن يرأس هذه اللجنة هو الجنرال جوزيف كليرفيلد؛ ابن الولايات المتحدة الأميركية الداعمة الأولى لـ"إسرائيل". لكنّ الغرابة، وفق مراقبين، تكمن في استمرار تضييع الوقت وحضور الاجتماعات دون إحراز أي تقدم يُذكر، بل على العكس. طيلة الأشهر الماضية، لم يُطلق لبنان رصاصة واحدة تجاه "إسرائيل"، فيما نشهد يوميًّا خروقات بالجملة تتنوّع ما بين غارات واغتيالات، قصف مدفعي، توغلات، تفجير ونسف منازل، وما إلى هناك من شتى أنواع الخروقات البرية والبحرية والجوية. خروقات تخطّت الـ5200 خرق منذ 27 تشرين الثاني 2024، فيما ارتقى أكثر من 300 شهيد بينهم نساء وأطفال وأصيب المئات أيضًا.
والواضح أنّ تلك الخروقات تشتد وتيرتها عقب كل اجتماع للجنة "الميكانيزم"، وهذا ما حصل عقب الاجتماع ما قبل الأخير في 29 تشرين الأول المنصرم والذي حضرته الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس. الحال ذاته تكرّر عقب الاجتماع الأخير الأربعاء في 12 تشرين الثاني. وتيرة الاستهدافات والغارات لم تهدأ منذ الاجتماع، ما يُبيّن أنّ وجود هذه اللجنة بات عبئًا على لبنان بغض النظر عن الموقف الرسمي اللبناني الذي يرفض من وقت لآخر الإملاءات الأميركية كطلب تفتيش منازل الجنوبيين، والذي يسعى ويسعى للوصول إلى نتيجة، لكنّ كل مساعيه تتبخّر بسبب اللا نية الأميركية قبل "الإسرائيلية" لوقف العدوان. الأربعاء، عقدت اللجنة اجتماعها الـ13. ما النتيجة "العملية" التي وصلت إليها؟ الإجابة تكمن في اللا شيء سوى المزيد والمزيد من الاعتداءات في ظل ضوء أخضر أميركي، ما يطرح السؤال ــ وفق البعض ــ حول جدوى استمرار لبنان في هذه اللجنة والتعاون معها طالما استمرّ العدو على ما هو عليه من قصف ودمار وقتل للأبرياء.
اللواء شحيتلي، يشدّد في حديث لموقع "العهد" الإخباري على أنّ لجنة "الميكانيزم" لا تؤدي دورها كما يجب"، معتبرًا أنّ هناك تقصيرًا في أدائها؛ إذ إنّ الجانب الأميركي يستطيع، برأيه، أن يكون أكثر فاعلية في هذه اللجنة، لكنه لا يريد. ويشير إلى أنّ الذرائع التي تسوّقها "إسرائيل" لتبرير قصفها هي ذرائع واهية، موضحًا أنّ مهمة اللجنة هي تطبيق الاتفاق الذي ينصّ على وجوب التدخل فورًا، في حال ظهور أيّ أعمال "عدائية" أو تحضيرات لأعمال عدائية ضد "إسرائيل". لكن ما نراه اليوم، مختلف تماماً، فالأهداف التي تضربها "إسرائيل" ليست عسكرية. الأخيرة تعيد قصف أهداف سبق أن استهدفتها أكثر من مرة، رغم كونها أهدافًا معطّلة عن العمل. ومن غير المعقول ــ وفق المتحدّث ــ أن يُقصف الهدف نفسه أربع أو خمس مرات بحجة التحضير فيه لأعمال عدائية. "إسرائيل" تقصف لمجرد القصف، حتى ولو لم يكن لديها بنك أهداف، وهي تفعل ذلك فقط لإبقاء الأجواء في حالة من التوتر. ومعظم الأهداف التي تُعيد مهاجمتها هي غير عسكرية، ما يؤكد أنّ ما تقوم به" إسرائيل" من قصف وغيره يُعدّ استمرارًا للأعمال العدائية وعدم التزام بوقف إطلاق النار."
ويتابع شحيتلي :"إنّ مهمة اللجنة، في الأساس، هي معالجة الخروقات التي تحصل عندما تكون لدى "إسرائيل" أو لبنان هواجس معينة، لكنّ اللجنة اليوم لا تضغط على "إسرائيل"، ليس لعجزها عن ذلك، بل لعدم رغبتها في ممارسة هذا الضغط. فلو أرادت فعلت، ولو كان رئيس اللجنة الأميركي راغبًا فعلاً في منع "إسرائيل" من تنفيذ اعتداءاتها، لما استطاعت أن تقوم بما تقوم به"، ويضيف شحيتلي :"إنّ الأهداف والاغتيالات التي نفّذتها "إسرائيل" طاولت أشخاصًا خارج المعركة، قائلاً: "لم يعد لديها أهداف عسكرية حقيقية".
شحيتلي الذي رأس ــ إضافة الى تمثيل الحكومة لدى "اليونيفيل" ــ الوفد المفاوض حول الحدود البحرية، يستعير من تجربته بعض المواقف ليُبيّن العقلية التي يجب أن يفاوض فيها لبنان الرسمي، مع إشارته الى أنّ الظروف تغيّرت بين الأمس واليوم، وفي هذا السياق، يقول: "سابقًا، عندما كنا نجري المفاوضات، كان لبنان قويًا. عندما نقول (لا)، كانت تعني (لا). وعندما كانت "إسرائيل" تطلب شيئًا، كان المفاوض اللبناني يفرض رأيه. أما اليوم، فالوضع مختلف. أنا شخصيًا لم أكن أراجع أحدًا، وكنت أتخذ القرار على الطاولة بما يخدم مصلحة لبنان. وفي حال لم يعجبهم ذلك، بوسعهم استبدالي بمفاوض آخر. كنت أقول (لا) ثم أُعلم المسؤولين بالقرار لاحقًا، وأنفّذ قناعتي. فالمفاوض عندما يكون قويًا وينفّذ قناعاته، يفرض احترام موقفه." يستذكر شحيتلي حادثة شجرة العديسة، قائلًا: "كان هناك اتفاق حول الارتباط وآلية حل الإشكالات، وينصّ على أنّه في حال أرادت "إسرائيل" القيام بأي عمل بين السياج والخط الأزرق، عليها أن تُبلّغ قوات "اليونيفيل" قبل 24 ساعة. هذه النقطة لم تُعجب رئيس الوفد "الإسرائيلي" الجديد، فقال إنّه غير موافق، معتبرًا أنه لا يحق لأحد أن يفرض شروطًا. لكننا أصررنا على موقفنا، وفي صباح اليوم التالي خرجوا وأعطوا علمًا لليونيفل في الساعة ذاتها، دون احترام للاتفاق أو للمهلة المحددة، ففتحنا النار عليهم، وقُتل وقتها ثلاثة جنود "إسرائيليين"، من بينهم ضابطان". برأي شحيتلي، هذه الحادثة خير دليل على أنّ "إسرائيل" إذا لمست تراخيًا، تتجاوز الاتفاقات، أما إذا واجهت موقفًا حازمًا ومصرًّا، فلا تجرؤ على التعدي أو الخرق.
وبينما أثبتت المعادلة الذهبية "جيش، شعب ومقاومة" جدواها طوال السنوات الماضية، يوضح شحيتلي: أنّ الفرق بين المفاوضات السابقة واليوم تكمن في أنّ "الإسرائيلي" كان يخشى أن يقوم بعمل عدواني عسكري يواجَه بردّ فعل حتمي؛ لأن الحكومة اللبنانية حينها كانت تقول بوضوح: (أنا غير موافقة)؛ أي أن هناك ردّ فعل سيحدث. كان هناك خوف حقيقي من المقاومة التي كانت تقف خلف الجيش. وعندما حصلت حادثة العديسة، زار وفد من كتلة الوفاء للمقاومة قائد الجيش اللبناني، وأعلن أن المقاومة تقف خلف الجيش. وقد كان "الإسرائيلي" يدرك أن أي مواجهة مع الجيش اللبناني ستعني مواجهة مع المقاومة أيضًا". ويضيف شحيتلي :"هناك ضغط دولي كبير لحصر السلاح بيد الدولة، والجميع متفق على ذلك. لكن كي تكون الدولة اللبنانية وحدها مسؤولة عن السلاح، تريد المقاومة أولًا أن تطمئنَّ إلى أن الدولة اللبنانية حامية للجميع ولديها القوة والقدرة على ذلك. وهذا يتطلب خطابًا داخليًا موحّدًا وتوافقًا سياسيًا شاملًا؛ لأن بعض الأصوات في الداخل تطالب برأس المقاومة، ما يجعل الطائفة الشيعية حذرة حين تسمع شركاءها في الوطن يقولون: (ارموا سلاحكم ثم نحلّ الأمور لاحقًا). وحدة الموقف الداخلي هي الأساس".
ويتابع شحيتلي: "صحيح أنّ قوة لبنان الحالية تكمن في الدعم الدولي والدبلوماسية الدولية، لكن يبدو أن هذه الدبلوماسية لا تدفع لبنان نحو المواجهة أو الدفاع عن حقوقه، بل تطلب منه الخضوع للشروط "الإسرائيلية". الأميركي يأتي إلى لبنان حاملًا سقفًا تفاوضيًا محددًا، ولبنان يوافق عليه، فتعود "إسرائيل" وترفض، فيرجع الأميركي رافعًا السقف أكثر. أعتقد أن هذه المقاربة خطأ. المفروض أن تقول "إسرائيل" للبنان بوضوح ماذا تريد. الموقف اللبناني الرسمي اليوم، في الحقيقة، موقف حكيم. في البداية وافق لبنان على ورقة توم براك في مجلس الوزراء، ولكن عندما تبيّن أن "إسرائيل" غير موافقة، رفع لبنان سقف مطالبه، وهذه الطريقة مفيدة لأن "الإسرائيلي" دائمًا يرفع السقف. يجب أن نعرف مسبقًا ما الذي تريده "إسرائيل"".
ويضيف شحيتلي: "اليوم، في المفاوضات غير المباشرة، نذهب ونقدّم ورقة قد لا يوافق عليها "الإسرائيلي". والتجربة تُثبت أنه كلّما تنازلت الجهة المقابلة، طالبها الإسرائيلي بالمزيد من التنازلات. لذلك يجب أن نعرف سلفًا مطالب "إسرائيل"، وهذا كان أول شرط وضعته عام 2006 خلال المفاوضات". وفق المتحدّث، في مختلف المفاوضات التي جرت سابقًا كان لبنان ينجح في الوصول إلى ما يتوخَّاه، خصوصًا لجهة انسحاب الجيش "الإسرائيلي" وفق القرار 1701، ولم نسمح لـ"إسرائيل" بالتدخل في شؤوننا الداخلية. فعندما كانت تتحدث "إسرائيل" عن مواقع للمقاومة أو ما شابه، كنا نردّ بأنّ هذا شأن داخلي لا علاقة لها به".
ويشدّد شحيتلي على أنّ لبنان لا يزال يمتلك أوراق قوة على رأسها الشعب الذي لا يزال يؤمن بالمقاومة، وروح المقاومة ما زالت قوية وموجودة لديه، ويضيف: "من أوراق القوة أيضًا مسألة الاعتراف، فـ"إسرائيل" كانت ولا تزال أقوى منا عسكريًا، لكننا لم نعطها ورقة الاعتراف بوجودها، ولا نزال نقول، إنّ العدو "الإسرائيلي" هو عدو، رغم أنه يريد منا الاعتراف به كدولة. وهذا الأمر بحد ذاته ورقة قوة للبنان الذي يمتلك حضورًا دبلوماسيًا كبيرًا في الأمم المتحدة والعالم، ويستطيع أن يؤثر في صورة "إسرائيل" التي تعمل جاهدة على استمالة الدول".
ويختم شحيتلي حديثه بالقول: "عندما يذهب الوفد اللبناني إلى المفاوضات، يجب أن يسأل المفاوض أولًا ما إذا كان الجانب "الإسرائيلي" موافقًا على المقترحات المطروحة أم لا. فأي اقتراح يأتي من المفاوض الأميركي أو من لجنة "الميكانيزم"، يجب ألَّا نعطي رأينا فيه (ببلاش) قبل أن نعرف الموقف "الإسرائيلي" منه؛ لأنّ التجربة تقول، إنه في كل مرة نتنازل فيها عن مستوى أو صيغة، يرفع "الإسرائيلي" سقفه أكثر، فنفقد القدرة على الضغط".