مقالات مختارة
هادي محمد عفيف - صحيفة الأخبار
بعد استشهاد السيّد حسن نصر الله بساعتين، في 27 أيلول 2024، وقبل تأكيد الخبر رسميّاً، أخبرني والدي، الحاج محمّد عفيف، أنّه لن يبقى طويلاً بعده. قلت له مستنكراً: «شو هالحكي؟»، فأجاب بهدوءٍ قاطع: «ما عم بحكيك شعر. لن أبقى بعده إلا قليلاً».
بعد استشهاد السيّد حسن نصر الله بساعتين، في 27 أيلول 2024، وقبل تأكيد الخبر رسميّاً، أخبرني والدي، الحاج محمّد عفيف، أنّه لن يبقى طويلاً بعده. قلت له مستنكراً: «شو هالحكي؟»، فأجاب بهدوءٍ قاطع: «ما عم بحكيك شعر. لن أبقى بعده إلا قليلاً».
عندما قصدته في ذلك المساء، كان يمشي في الصالة ذهاباً وإياباً، مثقلاً، كأن الأرض تضيق به. سلّمت، فلم يردّ، وهو الذي كان يبدأ حديثه بالابتسامة دائماً. حاول إجراء اتصالاتٍ عدّة، لكنّ كلّ الخطوط التي يمكن أن توصله بالسيّد كانت مقطوعة. مرّت تلك الليلة مثقلة بالانتظار.
اتصال مع مسؤول وحدة الأمن الوقائي الشهيد الشيخ نبيل قاووق وآخر مع رئيس المجلس التنفيذي الشهيد السيّد هاشم صفي الدين الذي أكدّ له استشهاد الأمين العام وكلّ الفريق الذي كان معه، وكلّفه، فجراً، بكتابة بيان النعي. كتب الخبر الصاعقة بدمع عينيه. لاحقاً أخبرني أنه النص «الأكثر صعوبة الذي كتبته في حياتي».
تسارعت الأحداث بعد هذا التاريخ. في اليوم التالي، غادر والدي المنزل لمرة أخيرة، كمن يعرف أنه يسير إلى آخر الطريق. في العرف الحسيني، يخرج المحبّ إلى الطريق نفسه الذي سلكه الإمام الحسين، حاملاً الرسالة. هكذا فهم الحاج محمد عفيف معنى الأربعين.
في 29 أيلول نعى نفسه، وإن قال إنه لا يفعل. وجّه رسالة إلى أهل الفكر والسياسة والإعلام، مستنهضاً فيهم الهمم، ومؤكداً أن أحوج ما تحتاجه المقاومة في ذلك الوقت هو كلمة الحق، لا السلاح ولا الذخيرة، قائلاً: «لا طيّب الله العيش بعدك يا سيّد».
كان دمعه مدراراً في الاجتماعات الخاصّة والعامّة، ولم يتمالك نفسه إلّا في المؤتمرات الصحافيّة الرسميّة. إذ حمل على عاتقه قيادة الحرب الإدراكيّة وحرب التأثير بعد استشهاد السيّد. انصرف إلى عمله، الذي كلّف نفسه به. فعقد أربعة مؤتمرات صحافية كان كلّ منها بمثابة رافعة للمحبّين والمناصرين.
لكّل من هذه المؤتمرات قصة تروى لا سيّما المؤتمر الصحافي الثاني الذي عقده على طريق المطار في 11 تشرين الأول، بعدما رفض أكثر من طرف استقباله في العاصمة بيروت.
عندما قرّر عقده على الطريق، وأمام أبنية مهدّمة، اتصلت به قبل وصوله إلى المكان بخمس دقائق، وسألته إن كان يفضّل الحديث جلوساً أو وقوفاً كما في المؤتمر السابق الذي عقده أمام قناة الصراط. اختار الجلوس، فسارعت للبحث عن طاولة وكرسي وجدتهما في قاعة أعراس قريبة، وتابعت معه كلّ تفصيل ذلك اليوم: لقاءاته، اجتماعاته، رسائله. ومنذ ذلك اليوم، وجدتني أعيش تجربة مختلفة مع أبي. كانت المرّة الأولى التي أعمل فيها معه مباشرة، إذ لطالما رفض أن يعمل معه أحد من أقاربه كي لا يختلط «العاطفي بالمهني».
كنتُ في تلك الأيام كمن يكتشف أباه من جديد. سمعتُ عن إنجازاته في حرب تموز 2006. حكايات بطولية، منها ما ورد عن الدائرة المقرّبة من السيّد الشهيد، ومنها ممن لازموه خلال حرب الـ33 يوماً، وهم يحدّقون بالموت من دون أن يرتجفوا. وللمفارقة الموجعة، لم أعرفه تماماً إلا حين بدأ يتهيّأ للغياب.
وسط رائحة البارود وصوت الحديد، رأيته أمامي على حقيقته الأولى: رجلاً من معدنٍ نادر، يصنع الشجاعة بصبرٍ يوميّ، ويواجه الإعصار بثباتٍ غريب، لا يساوم على ما يؤمن به، وكأن الحرب بالنسبة إليه ليست اختباراً للقوة، بل امتحان للكرامة.
حينها فقط أدركت أني كنت أعيش سنواتٍ طويلة قربه من دون أن أراه حقّاً. اليوم، كلما تذكّرت تلك الفترة، أدركت أن الحرب رغم وحشيتها منحتني هديةً نادرة: أن أرى والدي كما لم أرَه من قبل. أن أتعرّف إليه، لا كأبٍ وقياديّ فقط، بل كرفيق السيّد حتى شهادته، إنسان يختصر حكاية جيلٍ بأكمله.
تحاول ذاكرتي أن تستعيد تفاصيل تلك الأيام، وما سبقها منذ بداية حرب الإسناد. أعصرها محاولاً إعادة كتابة القصة التي عرّفتني إلى صورة جديدة عن أبي الحنون. أتذكر اتصالاً أجراه مع السيّد حسن سمعته يقول له فيه: «إنتَ حامل حمل كبير كتير، مش صار وقت تخفّف شوي؟ نحمل عنك، لأنّك حاملن ونحن عملياً مرتاحين أكتر منك». بعد استشهاد السيّد، انتقل جزء ضخم من هذا الحمل إليه، حمل القيادة والوجدان معاً.
كان مطمئناً عسكريّاً، وعلى اتصالٍ شبه يومي بغرفة العمليّات والقيادة الميدانيّة. في مؤتمره الصحافي الذي عقده على طريق المطار، ختم كلامه بعبارته الشهيرة: «حزب الله أُمّة، والأُمم لا تموت». بعدها بنحو 6 ساعات، بعث إليه مسؤول منصّات إطلاق الصواريخ على حيفا، رسالةً شفهيّة عبر أحد المقرّبين: «أكّد للحاج أنّنا نستمدّ معنويّاتنا من إطلالاته» وصلتني الرسالة فقرأتها له. أزاح بصره عنها، وابتسم ابتسامة خجولة.
في المؤتمر الصحافي التالي، الذي عُقد في روضة الحوراء زينب، 22 تشرين الأول، كانت الصورة أشدّ رمزيّة. من الأبنية المهدّمة إلى أحضان الشهداء، وأمام الشهداء القادة الجدد، الذين بدأ المؤتمر بنعيهم. هناك أعلن تبنّي عمليّة استهداف منزل نتنياهو.
في الليلة التي سبقت عقد المؤتمر، دار نقاش بشأن إصدار بيان يتبنى العملية، لكنّ الحاج أكّد، بالتشاور مع الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، أن الإعلان يجب أن يصدر من على المنبر مباشرة، تقديراً لأهمّية الحدث. كان ذلك الإعلان، قطب الرحى في الحرب الإدراكيّة، وضعه تحت عين العدو، وتناوله الإعلام الإسرائيلي مطوّلاً، إذ لم يسبق لعربيّ أن هدّد باستهداف رئيس حكومة الاحتلال في منزله.
أثناء المؤتمر، ورد إنذار من المتحدّث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي عن احتمال استهداف قريب من المكان. وضعت معاونته رنا الساحلي الورقة أمامه، قرأ الخبر، وأكمل المؤتمر كأن شيئاً لم يكن. وحين انتهى، سارع الصحافيّون إلى المغادرة، وهرع رجال الحماية إليه، طالبين منه الخروج سريعاً، فرفض: «نخرج بعد آخر كاميرا وآخر صحافي، بهدوء، بلا استعجال».
بعد هذا المؤتمر، حاولت الوحدات الأمنية إقناعه بالابتعاد عن الهاتف وتغيير مكانه، رفض وقال لأحدهم: «إذا بتوقفوني عن الشغل وبتحطّوني بغرفة، بتكونوا عم تنهوا محمد عفيف وعم تنهوا تكليفي. ما رح أقبل، لو بدو يكلفني الأمر شهادتي». التكليف الذي عرفه وتسلمه من السيّد من دون أن يكون حاضراً. كان يعيش معه، يعرف كيف يأخذه حتى في غيابه.
مؤتمره الصحافي الأخير، في 11 تشرين الثاني، داخل مجمّع سيّد الشهداء متعمّداً أن يكون هناك في التاريخ الذي يحمل رمزيّة يوم شهيد حزب الله والمكان المرتبط بالسيّد. هناك نعى قائده للمرّة الثانية، وكتم دموعه مرات. بعد المؤتمر، تسابق الجميع لالتقاط الصور معه: إعلاميّون، أصدقاء، حتّى بعض رجال الحماية. لم يعترض وقال مبتسماً لأكثر من شخص: «خلص، مصرّين تودّعوني».
كثيراً ما تناقشت مع أخي، كيف يمكن لقيادي مثل أبي، خاض الميدان الإعلامي والسياسي، أن يُرزق بالشهادة، وهو الذي لم يكن يوماً على لوائح الملاحقين من قبل الموساد. لكنّ الحرب قدّمتها له فرصةً على طبقٍ من ذهب: استُشهد السيّد، فقاد الحرب الإدراكيّة، ونالها حين نفّذ تكليفه الأخير.
في اليوم الذي سبق استشهاده، التقينا مصادفة، من دون تنسيق مسبق، في غرفة المستشفى التي ترقد فيها أمّي التي كانت تعاني من مرض عضال. طلب مني موافاته ليلاً إلى مكتبه. كانت تلك المرة الوحيدة التي يدعوني هو فيها لملاقاته، بينما كنت ألاحقه وأتصل به طوال الفترة السابقة. طالت جلستنا وكانت «ليلة التوصية». تحدّث عن العائلة، وعن الشأن العام، وعن حزب الله، وكيف يمكن للمقاومة أن تنتصر: «المهم أن تقف المعركة كي نبدأ من جديد».
روى لي كيف كان يستحضر السيّد قبل كلّ مؤتمر صحافي، قبل كلّ كلمة يقولها، كيف يفكّر في عباراته واتجاهها، ومع من يتحدّث. وبينما كنّا في الحوار، رنّ الهاتف الداخلي في غرفة أخرى، قام وغاب ربع ساعة، ثم عاد والدموع في عينيه. سألته: «مين استشهد؟». قال: «السيّد، تلك اللحظة محفورة في قلبي كأنها أمس». ثم تحدّثنا عن تداول اسمه في الإعلام، فقال بهدوء: «لا إشكال… بعد السيّد، كل شي بيهون». صمت قليلاً ثم قال بالحرف: «لعلي لاحقٌ به عمّا قريب».
في اليوم التالي، 17 تشرين الثاني، تحدّثنا صباحاً عن تقارير إسرائيلية تتعلّق بصواريخ المقاومة، ثم عند الساعة الواحدة، تحدّثنا بموضوع عائلي. أغلقنا الهاتف. بعدها بنحو ربع ساعة، انهالت عليّ الاتصالات. لم أسمع صوت الغارة، ولم أكن قد قرأت بعد أنّ هناك استهدافاً في منطقة رأس النبع، حتى أرسل لي أحدهم أنّ الهدف هو والدي. اتصلت بهاتفه، كان يرنّ. نظرت إليه وقلت في نفسي: «ردّ… ردّ». وقف الزمان جداراً أمامي.
في تلك الليلة قرأت وصيّته، وكانت الجملة الأولى فيها:
«إلى أولادي الأعزّاء، أوصيكم أن تبقوا في هذه المسيرة الإلهيّة المنصورة».
سلّمني إيّاها في 16 تشرين الأول، قبل شهر من استشهاده. قال لي: «لا تُفتح إلّا إذا أخذ الله أمانته».