مقالات مختارة
صحيفة البناء - ناصر قنديل
لا نقاش في واجب رفض الاستجابة للضغوط الداعية للتفاوض السياسي مع كيان الاحتلال، رغم أن ما جرى هو التفاف على فكرة التفاوض السياسي بتعيين شخصية لها صفة سياسية، لكن في إطار تفاوضي محكوم بجدول مهام يرتبط بتثبيت اتفاق وقف إطلاق النار ومراقبته، والتفاوض السياسي لا يتمّ بمجرد جلوس شخصيتين سياسيتين حول طاولة واحدة، ومواضيع التفاوض السياسي هي السلام والتطبيع ولا شيء سواها، فهل تصلح لها الصيغة الراهنة؟
منذ أسابيع يدور هذا النقاش في لبنان، وقد سبق للمقاومة أن قالت رأيها في ما عُرف بالرسالة الموجّهة للرؤساء الثلاثة الذين اتفقوا على خطوة إضافة مدني إلى لجنة وقف إطلاق النار، وربما لا يكون هناك اتفاق على التسمية، وربما يكون، فمن زاوية معينة رغم أن عداء السفير سيمون كرم للمقاومة لا يقلّ عن عداء “إسرائيل” لها، كما تقول وثائق ويكليكس حول تطوّعه لوضع خطط وبرامج ونصائح لكيفية مواجهة المقاومة على مدى عقدين، ربما كانت “إسرائيل” تفضل خبيرًا في الشؤون النفطية لتعيد فتح التفاوض على الترسيم البحري، كما وعد وزير الحرب في حكومتها، بدلًا من صديق مقيّد اليدين، لا يستطيع إصدار قرار بنزع سلاح المقاومة، ولا التوقيع على تعديل الخرائط الحدودية، أو التوقيع على اتفاق يمنح الاحتلال امتيازات أمنية على حساب السيادة اللبنانية.
الاستجابة للضغوط بقبول شكل من التفاوض ليس من ضمن مهمّة لجنة مراقبة وقف النار تمنح “إسرائيل” فرصة التباهي بالإنجاز، ومواصلة الضغوط سعيًا للحصول على إنجازات أخرى، لكن معضلة الإنجاز الذي يمكن أن تحققه المفاوضات بالنسبة للطرفين المعنيين لبنان و”إسرائيل” تتلخص بما يلي، “إسرائيل” لن تنسحب ولن توقف اعتداءاتها دون انخراط الدولة اللبنانية بعملية نزع سلاح المقاومة بالقوّة لأن المقاومة لن ترتضي فعل ذلك طوعًا، ولبنان لن يفتح باب البحث مع المقاومة بخطوة أخرى في حصر السلاح والانسحاب من مناطق جديدة قبل وقف الاعتداءات "الإسرائيلية" وانسحاب “إسرائيل” إلى وراء الخط الأزرق، ووجود سيمون كرم في لجنة الميكانيزم لن يغير شيئًا في موقف الطرفين، فهل هناك مَن يعتقد بخلاف ذلك، فإن كان لبنان سيشهد انقلابًا باتّجاه الذهاب للصدام مع المقاومة، أليس الأفضل أن يتمّ ذلك دون عار التفاوض الذي يلوّث "نظافة الموقف" ويقدّمه كأمر عمليّات "إسرائيلي" حمله عدوّ للمقاومة بعد تعيينه مفاوضًا؟
السؤال العكسيّ هو هل سوف تكتفي واشنطن و"تل أبيب" بهذا المكسب السياسي والإعلامي للتراجع عن خيار التصعيد، كما يفترض رئيس الجمهورية، وربما يكون التراجع "الإسرائيلي" أكبر، كما يأمل رئيس الحكومة، إدراكًا من واشنطن لعدم وجود نتائج مضمونة للحرب، بينما منح الدولة اللبنانية فرصة ترجمة خطتها لحصر السلاح يقدّم سياقًا أعلى مصداقية بعد مرور سنة على الرهان "الإسرائيلي" على العكس، و”إسرائيل” تعلم أن انسحابها ووقف اعتداءاتها يعزّزان موقع الدولة التفاوضي مع المقاومة لتكرار نموذج جنوب الليطاني في منطقة أخرى هي جنوب الأولي على الأرجح. وهذا رهان أغلب الفريق المناوئ للمقاومة في لبنان، ومعه كثير من اللبنانيين الذين يرغبون بألا تقع الحرب ويضعون تمنياتهم في سياق التوقعات.
اختبار هذا الرهان ليس بالأمر السيئ، فإن جلب حلًا يضمن الانسحاب ووقف الاعتداءات، وفتح الباب للانتقال بين الدولة والمقاومة إلى مرحلة ثانية تقول المقاومة إنها مرحلة وضع الإستراتيجية للدفاع الوطني، وترغب الحكومة أن تكون مرحلة مشابهة لمرحلة جنوب الليطاني نحو جنوب الأولي مقابل خط الهدنة، فهذا لن يكون بالأمر السيئ، لكنّه برأينا لن يحدث، وهنا أهمية أن يختبره الآخرون كرهان، وأن يكتشفوا أن الأمور تعود إلى المربع الأول، “إسرائيل” تطلب نزع السلاح كي تفكّر بمستقبل انتشارها في الجنوب اللبناني وتحدّد طلباتها من الاتفاق الأمني الشبيه بما تطلبه من سورية، واللبنانيّون يعرفون أنه ليس بينهم من يمكن أن يعطيها ذلك، سواء لأنه لا يريد أو لأنه لا يستطيع.
فشل الخطوة التفاوضيّة قادم، وإذا كان هذا صحيحًا، وهو صحيح، طبيعيّ أن يُطرح السؤال، لماذا تريدها واشنطن وتل أبيب، والجواب سوريّ بالكامل، وجوهره أولًا أن الاتفاق السوري "الإسرائيلي" عندما يُعلَن سيشكّل فضيحة تحول دون انضمام لبنان إلى التفاوض لما يتضمنه الاتفاق من تنازلات سيادية، ولذلك يجب أن ينضمّ لبنان إلى شكل من التفاوض قبل إنجاز الاتفاق السوري "الإسرائيلي"، وثانيًا إذا فشلت المفاوضات السورية "الإسرائيلية" وطال أمدها، سوف تتراجع فرص إقناع لبنان بدخول مسار التفاوض، فيجب فعل ذلك سريعًا رغم أنّه قد لا ينتج شيئًا، وثالثًا أن شرعيّة التفاوض السوري "الإسرائيلي" مطعون بها ما بقي لبنان خارج التفاوض، فوجب جلبه للتفاوض لكسب هذه الشرعيّة.
الأهم أن واشنطن تريد إنتاج مجلس حكم غزّة وإحداث نقلة تفاوضية بين سورية و”إسرائيل”. وهذه الخطوة التفاوضية في لبنان، لتضمن تخفيض التصعيد في المنطقة وهي تعلم أن ليست هناك حلولٌ جاهزة في يدها لا حربًا ولا سلمًا، وهي تحتاج خفض التصعيد لسببين، الأول انشغالها بأزمة فنزويلا واحتمالات التصعيد فيها، والثاني شراء الوقت دون مفاجآت حتّى الانتخابات النصفية للكونغرس التي تجري في ظروف غير مريحة للرئيس الأميركي والحزب الجمهوري وتلعب صورة “إسرائيل” البشعة دورًا حاسمًا فيها.