مقالات
ما شهدته بعض دول أميركا اللاتينية سابقًا وحديثًا من تفلت الولايات المتحدة الأميركية في التعدي على سيادة هذه الدول كان له عدة أهداف، منها السيطرة السياسية والاقتصادية ونهب خيرات هذه الدول، وأيضًا تحييد المزاج العام عن التأييد اليساري الذي عُرفت به تلك الدول. وعندما نقول "يسار" في أميركا اللاتينية نعني الوقوف ضدّ الظلم والتعديات بما في ذلك المواقف المناهضة للفصل العنصري في جنوب أفريقيا وصولًا إلى المواقف المشرفة ضدّ جرائم "إسرائيل" في غزّة. لذلك تنشط الولايات المتحدة في التهديد بخلع رؤساء وتغيير السياسات في الدول اللاتينية المناهضة لها، وكان آخرها كما رأينا تهديدها لفنزويلا.
في هذا الجو المحيط بقارة أميركا اللاتينية، شهدت تشيلي منذ يومين انتخابات رئاسية في دورتها الثانية والتي تُعد كما يرى المراقبون من أكثر المحطات السياسية حساسية وتعقيدًا، فقد مثلت رؤيتين متناقضتين تمامًا، رؤية يمينية محافظة تركز كما تقول على الأمن والاستقرار الاقتصادي وحل مسألة الأمن والهجرة، ورؤية يسارية اجتماعية تدعو إلى العدالة الاجتماعية.
وهذا الاستقطاب الحاد ما بين اليمين واليسار لم يُمكّن أيًّا من المرشحين بالفوز من الدورة الأولى التي حصلت في الشهر الماضي، مما اضطرهم للذهاب إلى الدورة الثانية، وهنا كان العمل الدؤوب لليمين واليسار الذي يحكم الآن للوصول إلى الفوز.
في الجولة الثانية من الانتخابات مع فوز مرشح اليمين، اعتبر البعض من اليمين أن نجاحهم هو تحول في المزاج الشعبي من الحكم اليساري وأن مرشحهم قادر على إعادة هيبة الدولة التي يدّعون أن اليسار قد فرط بها، وخاصة التشديد على الحدود ومنع دخول المهاجرين وتشجيع الاستثمار حتّى لو كان ذلك على حساب السياسات الاجتماعية التي يهتم بها اليسار أكثر من اليمين، ولذلك خاض اليسار الانتخابات مدافعًا عن إرثه الاجتماعي، ومتمسكًا بخطاب يركز على العدالة الاجتماعية، وتحسين الخدمات العامة، وحماية الحقوق المدنية.
اختلفت الآراء ما بين مؤيد ومعارض محكوم بالرأي السياسي الداخلي وأيضًا بما يتعلق بالعلاقة مع الولايات المتحدة وتأييد الحق الفلسطيني في فلسطين وخاصة بعد طوفان الأقصى والإجرام الصهيوني في الإبادة التي تعرضت لها غزّة ولا زالت.
لا بد هنا من الإشارة إلى التجارب السابقة مع اليمين في تشيلي والتي كانت حافلة بتدخل واشنطن بالشأن التشيلي مباشرة بالتدخل ودعم المعارضة ضدّ الرئيس اليساري سلفادور أليندي، ودعمت انقلاب بينوشيه اليميني، ووصلت لدرجة قصف القصر الرئاسي وقتل الرئيس أليندي ليصبح الحكم ديكتاتوريًا مع بينوشيه الذي دام حكمه 17 عامًا.
فيكتور مالوك الناشط اليساري من أصل سوري يترأس مجموعة ناشطة بما خص القضية الفلسطينية وكان من المطاردين أيام حكم الديكتاتور بينوشيه وسجن عدة مرات مع زوجته، يعبّر عن خيبة أمله من نتائج الانتخابات الأخيرة بالقول: " أرى أن هذا يُعدّ هزيمةً للقوى التقدمية - التي تختلف عن اليسار الحقيقي - والتي وعدت، بعد الانتفاضة الاجتماعية عام ٢٠١٩، بتغيير النظام وقوانينه السيئة، لكنّها لم تُحقق شيئًا من ذلك. فضلًا عن ذلك، كان برنامج المرشح الشيوعي استمرارًا لنهج الحكومة السابقة، وبالطبع نجحت دعاية اليمين المتطرّف نجاحًا باهرًا في استغلال مطالب الشعب. وفي ما يتعلق بفلسطين، لا شك بأن الرئيس المنتخب هو من أنصار "إسرائيل" ومؤيد للإبادة الجماعية التي تحصل في غزّة وهو مدعوم بقوة من الولايات المتحدة الأميركية، ولكننا لن نسمح بنجاح أهداف الولايات المتحدة ولا "إسرائيل" وسنعمل على دحض موقفه ومحاولة التصدي لأي محاولة لتغيير الموقف التشيلي من القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا العادلة في العالم. أما في ما يتعلق بمنطقة باتاغونيا جنوب تشيلي عند القطب الجنوبي فخطة بيع هذه المنطقة للإسرائيليين هي للأسف قيد التنفيذ بالفعل والسبب هو غياب أي قرار وطني بهذا الخصوص".
أما ميشيل مرزوقة رئيس المرصد الدولي لحزب "الديمقراطية"، فيعبر عن خيبة أمله بنتائج الانتخابات، ولتداعيات هذا الحدث سيدعو لعقد حوار خلال الأسبوع الأول من يناير/كانون الثاني من العام القادم 2026، يدعو فيه سياسيين من دول أخرى للتحدث عن تجاربهم وكيف ينظرون إلى هزيمة أحزاب اليسار ووصول أحزاب اليمين المتطرّف إلى السلطة.
رواد مسجد فينيا دي لمار من أصول فلسطينية وسورية وباكستانية، يعبرون عن فرحتهم بوصول مرشح اليمين كاست إلى السلطة. وعند سؤالنا عن السبب يجيبون بأنهم كمسلمين لا يؤيدون اليسار بسبب دعمهم للمثليين، ويعتبرون أن ما يسمّى حكم اليمين الديكتاتوري يضبط الأمن في البلاد ويمنع الفوضى، وعند سؤالنا عن الموقف من فلسطين لأن اليمين في تشيلي صهيوني مؤيد لـ"إسرائيل" فإنهم لا يرون ترابطًا بين هذا وذاك، مع العلم بأن هؤلاء المؤيدين لليمين كانوا قد انقسموا بتبنيهم ما يحصل في سورية منذ عام بعد الانقلاب، فمنهم من أيد الانقلاب ومنهم من لم يؤيده.
وباختصار، فإن مشكلة الحكم في الدول اللاتينية هي مرهونة برضا الولايات المتحدة الأميركية فتترك هذه الدولة أو تلك تنعم بالسلام والأمان، أو بعدم رضاها، فتتدخل لتقصف قصرًا وتقيل رئيسًا وتدعم اليمين المتحالف معها دائمًا. تاريخ التدخل الأميركي في أميركا اللاتينية كان ولا يزال جزءًا من الحرب والسعي لمنع تشيلي وغيرها من الدول اللاتينية من التحول إلى دولة اشتراكية على غرار كوبا وهذا ما كشفته وثائق سرية بعد عقود من الزمن.