مقالات
Former Lebanese government coordinator to UNIFIL .Former Director General of Administration . Former President of the Permanent Military Court
عميد متقاعد في الجيش اللبناني/ منسق الحكومة اللبنانية السابق لدى قوات الطوارئ الدولية
ورئيس المحكمة العسكرية السابق
لم يكن انتقال الولايات المتحدة من خطاب نزع سلاح حزب الله إلى سياسة الاحتواء مجرّد تبدّل في الأسلوب أو تكيّف لغوي مع الوقائع، بل كان اعترافًا سياسيًا صريحًا بفشل مشروع طويل الأمد هدفه كسر المقاومة، عسكريًا واجتماعيًا ومعنويًا. هذا التحوّل لم يُولد في مراكز الدراسات الأميركية، بل فُرض من الميدان، ومن صمود حزب الله وجمهوره رغم أقسى الضربات والحصارات.
أولًا: فشل إستراتيجية الاستنزاف والكسر
استثمرت واشنطن وحلفاؤها سنوات في محاولة إنهاك حزب الله عبر العقوبات، والحصار المالي، والضغط على بيئته الاجتماعية، على قاعدة أن الجوع والانهيار سيُنتجان انقلابًا داخليًا على المقاومة. غير أن ما حدث كان العكس تمامًا: صمد الحزب، وتماسك جمهوره، وبقي السلاح حاضرًا كعنصر قوة لا كعبء داخلي. هذا الصمود أسقط الرهان الأميركي على التفكك من الداخل، وفرض إعادة نظر جذرية في أدوات المواجهة.
ثانيًا: جمهور لم ينكسر رغم الانهيار
في أكثر لحظات لبنان قسوة، حيث تآكلت الدولة وانهارت العملة وتفككت الطبقة الوسطى، بقي جمهور المقاومة متماسكًا سياسيًا ومعنويًا. لم تُنتج الضغوط الاجتماعية بيئة ناقمة على سلاح حزب الله كما توقّعت واشنطن، بل عزّزت القناعة أن الاستهداف اقتصادي - سياسي قبل أن يكون ماليًا. هذا الثبات الشعبي شكّل عامل ردع غير منظور، لا يقلّ أهمية عن الصواريخ والترسانة العسكرية.
وعلى أبواب الانتخابات النيابية، فشل مشروع اقتراع المغتربين الذي كان يعول عليه خارجيًا وداخليًا لخرق كتلة الثنائي الوطني، حيث تبين أيضًا أن الاستطلاعات أظهرت أن جمهور المقاومة تماسك أكثر والتفّ حول مقاومته وستكون نتائج هذه الانتخابات أكثر تأييدًا من أي وقت مضى.
ثالثًا: المقاومة كقوة لا يمكن شطبها
أدركت الولايات المتحدة، بعد تجارب متراكمة، أن حزب الله لم يعد مجرد تنظيم مسلّح يمكن عزله أو تفكيكه، بل تحوّل إلى معادلة راسخة في لبنان والمنطقة. محاولات الشطب فشلت، ومحاولات التطويع لم تنجح، فكان الخيار الواقعي الوحيد هو الاحتواء: ضبط السلوك، إدارة الاشتباك، ومنع الانفجار الكبير، بدل السعي إلى انتصار مستحيل الكلفة.
رابعًا: الردع المتبادل فرض قواعده
لم يكن التبدّل الأميركي وليد حسن نية، بل نتيجة ميزان ردع فرضته المقاومة. فكلّ تقدير أميركي جدي خلص إلى أن أي مغامرة عسكرية واسعة ضدّ حزب الله ستفتح جبهة لا يمكن التحكّم بمساراتها، وستخضع "إسرائيل" لاختبارات غير مسبوقة. هذا الردع، المتكئ على التجربة والخبرة والتراكم، هو ما جعل واشنطن تنتقل من لغة الأهداف القصوى إلى لغة إدارة المخاطر.
خامسًا: من وهم نزع السلاح إلى إدارة المشكلة
تحوّلت مسألة سلاح حزب الله في الخطاب الأميركي من مشكلة يجب حلّها إلى واقع يجب احتواؤه. هذا التحوّل بحد ذاته إقرار بأن المقاومة، بسلاحها وبيئتها، تجاوزت مرحلة التهديد القابل للإزالة، ودخلت مرحلة الأمر الواقع الذي يُبنى عليه لا عليه يُقضى.
دلالات التحوّل الأميركي
ما جرى ليس انتصارًا دبلوماسيًا عابرًا، بل نتيجة مسار طويل من الصمود. لقد فرضت المقاومة وجمهورها معادلة واضحة: لا نزع للسلاح تحت الضغط، ولا انهيار داخلي يُسقط خيار المقاومة. أمام هذه المعادلة، لم تجد واشنطن سوى خفض سقفها، واستبدال خطاب الكسر بسياسة الاحتواء.
خاتمة
حين تعجز القوّة عن الإخضاع، تلجأ إلى الإدارة. وحين يفشل الحصار في تفكيك الإرادة، يُستبدل بمحاولة ضبطها. هذا بالضبط ما فعلته الولايات المتحدة مع حزب الله: تخلّت عن وهم نزع السلاح، لا قناعةً، بل عجزًا. أما صمود المقاومة وجمهورها، فكان العامل الحاسم الذي حوّل السلاح من هدف للإزالة إلى حقيقة سياسية لا يمكن تجاوزها.