خاص العهد
أكد نقيب الممثلين نعمة بدوي، أن "المقاومة ليست فعلًا ظرفيًّا مرتبطًا بلحظةٍ سياسيةٍ أو عسكريةٍ محدّدة، بل هي مسارٌ حضاريٌّ طويل يبدأ من حماية الذاكرة، ومنع إعادة صياغة التاريخ بما يخدم رواية القوّة". ورأى أن السينما القصيرة تمتلك موقعًا متقدمًا في هذا المسار، لأنها قادرة على اختراق الوجدان بسرعةٍ وعمق، وتفكيك السرديات المفروضة بأدواتٍ جماليةٍ ومعرفية، لا بالشعارات المباشرة.
كلام بدوي جاء في تصريح خاص لموقع العهد الإخباري على هامش الحفل الختامي لمهرجان "الخيط القصير" الذي نظمته الجمعية اللبنانية للفنون - رسالات، مساء اليوم الجمعة 19/12/2025 في مسرح المركز الثقافي لبلدية الغبيري، بحضور فعالياتٍ ثقافيةٍ وفنيةٍ ومهتمين بالسينما المستقلة.
وتخلّل الحفل عرض مختاراتٍ من الأفلام المشاركة، إلى جانب توزيع الجوائز على الأعمال الفائزة، في ختام دورةٍ ركّزت على دعم الأفلام القصيرة، ولا سيما الأعمال التي لا تتجاوز مدتها 100 ثانية، بما يعكس توجّه المهرجان إلى تشجيع التجارب الشابة والابتكار في السرد البصري.
وقدّم نقيب الممثلين مقاربةً شاملةً لدور السينما القصيرة في ترسيخ ثقافة المقاومة ومواجهة أخطر أشكال الصراع المعاصر القائم على الوعي والرواية والمعنى، إذ إن الفن اليوم بات أحد ميادين المواجهة الأساسية في وجه محاولات التطبيع الثقافي والفكري.
وأوضح أن أخطر ما في التطبيع لا يكمن فقط في الاتفاقات العلنية، بل في تطبيع الوعي مع الظلم، عبر أعمالٍ فنيةٍ وإعلاميةٍ تُعيد تقديم القضايا العادلة بوصفها "نزاعاتٍ متكافئة"، أو تُجرّد الضحية من سياقها التاريخي، وتفصل الألم عن سببه الحقيقي.
وهنا، بحسب بدوي، يأتي دور الفن المقاوم الذي يرفض الحياد الزائف، ويعيد تثبيت البوصلة الأخلاقية، بتسمية الأشياء بأسمائها، والانحياز الصريح للإنسان وحقه وكرامته.
وشدّد على أن ثقافة المقاومة في السينما لا تعني إنتاج أعمالٍ خطابيةٍ أو دعائية، بل تعني وعي الفنان لدوره ومسؤوليته تجاه الصورة التي يصنعها، والسردية التي يسهم في ترسيخها. وأشار إلى أن الفيلم القصير المقاوم هو ذاك الذي يطرح السؤال الصحيح، ويكشف التناقض، ويُبقي الجرح مفتوحًا في الذاكرة، بدل أن يقدّم تسوياتٍ بصريةً مريحةً تُخدّر الإحساس وتُفرغ القضايا من مضمونها.
وأضاف بدوي أن قوة الفيلم القصير تكمن في قدرته على التكثيف، حيث تتحول الثواني القليلة إلى مساحةٍ كثيفةٍ بالمعنى، قادرة على نقل روايةٍ كاملةٍ بلمحةٍ أو مشهدٍ أو صمتٍ مدروس. وهذا ما يجعل منه أداةً فعّالةً، وفقًا لبدوي، في مواجهة السردية التطبيعية التي تعتمد غالبًا على التراكم البطيء، والتكرار الناعم، والتسلل غير المباشر إلى الوعي الجمعي.
وأشار إلى أن هذه الأعمال تُسهم أيضًا في تحرير المتلقي من الاستهلاك السلبي للصورة، وتدعوه إلى التفكير والمساءلة، ما يعزز مناعة المجتمع الثقافية. فالمقاومة الثقافية، ليست فقط في إنتاج العمل بل في خلق متلقٍّ واعٍ قادر على قراءة الصورة وفهم خلفياتها وأهدافها.
ورأى أن المهرجانات التي تحتضن السينما القصيرة المقاومة تؤدي وظيفةً وطنيةً ومعرفية، لأنها تُشكّل فضاءاتٍ حرةً خارج منطق السوق والتمويل المشروط، وتمنح المنصّة لأصواتٍ شابةٍ لا تزال قادرةً على قول "لا" في زمن التسويات. فهذه المبادرات تحمي التنوّع الثقافي، وتمنع احتكار الرواية، وتُبقي الفن في موقعه الطبيعي كفعل موقف لا كسلعة.
وفي قراءته للسياق العام، شدّد بدوي على أن المعركة الثقافية اليوم لا تقل خطورةً عن أي معركة أخرى، خصوصًا في ظل محاولات الاختراق الناعمة التي تستهدف الوعي الجمعي عبر الصورة والترفيه. وأكد أن السينما القصيرة تمتلك قدرةً استثنائيةً على مواجهة هذا الواقع، لأنها أكثر تحررًا من القيود التجارية، وأكثر جرأةً في طرح الأسئلة الحساسة، وأكثر قربًا من الناس وقضاياهم اليومية.
كذلك رأى أن هذه الأعمال تؤدي دورًا محوريًّا في دحض سردية التطبيع، لا عبر الخطاب المباشر أو الشعارات، بل من خلال إعادة بناء الرواية الإنسانية من زاوية الحق والكرامة والعدالة.
وختم بدوي بالتأكيد أن دعم هذه التجارب الفنية ليس خيارًا ثانويًّا، بل ضرورةٌ وطنيةٌ وثقافية، لأنها تحمي السيادة المعنوية للمجتمع، وتُسهم في بناء جيلٍ واعٍ، قادر على استخدام الفن كأداة تعبير وموقف في آنٍ واحد. فالثقافة، يؤكد بدوي، هي خط الدفاع الأول عن الوعي، وحين تكون حاضنةً للفن الصادق، تتحول إلى قوةٍ قادرةٍ على مواجهة التزييف، ومقاومة التطبيع، وصون الهوية والكرامة الإنسانية.