إيران
في الوقت الذي شن الكيان الصهيوني عدوانه على الجمهورية الإسلاميّة في إيران في حزيران/ يونيو الماضي والذي عرف بحرب الـ12 يومًا لم يكن ما جرى مجرّد مواجهة عسكرية عابرة، بل محطة كاشفة لطبيعة المشروع الصهيوني القائم على العدوان المركّب الذي يمزج بين النار والتكنولوجيا، وبين السلاح الصلب وأدوات التجسس الناعمة، في محاولة دائمة لفرض الهيمنة وكسر إرادة الخصوم.
ففي الساعات الأولى من المواجهة، أقدم العدوّ "الإسرائيلي" على تنفيذ ضربة جوية دقيقة استهدفت قيادات الصف الأول في الحرس الثوري والجيش الإيراني، من بينهم قائد الحرس الثوري حسين سلامي ورئيس الأركان محمد باقري، إضافة إلى عدد من كبار الضباط والعلماء النوويين. هذا الاستهداف المنهجي كان يهدف إلى إحداث صدمة قيادية وإرباك منظومة القرار في طهران، أملًا في تحقيق تفوّق سريع يُراكمه العدوّ في بداية المعركة.
إلا أن ما يستدعي التوقف عنده، أبعد من نتائج الضربة نفسها، هو الأدوات التي اعتمدها العدوّ للوصول إلى هذا المستوى من الدقة. فالوقائع تشير إلى أن الاحتلال لم يعتمد فقط على قدراته العسكرية التقليدية، بل لجأ إلى تسخير تقنيات يُفترض أنها مدنية وسلمية، من تطبيقات المراسلة إلى أنظمة الملاحة والهواتف الذكية. هذه الأدوات التي تُروَّج عالميًا على أنها محمية بالتشفير والخصوصية، تحوّلت عمليًا إلى منصّات اختراق وجمع معلومات، عبر ما يُعرف بالبيانات الوصفية التي تكشف المواقع وأنماط الحركة والتواصل.
ومع استخدام برامج تجسس متطورة كـ"بيغاسوس"، يسقط آخر ما تبقّى من أوهام الخصوصية، ويتحوّل الهاتف الشخصي إلى جهاز تعقّب بيد أجهزة استخبارات العدو، وعلى رأسها "الموساد". ولم يتوقف هذا التوظيف الإجرامي عند حدود الاتّصالات، بل امتد إلى أنظمة الملاحة العالمية، حيث استُخدمت تقنيات التشويش والتضليل للتأثير في دقة الصواريخ، ولإرباك الملاحة المدنية في البحر والجو، ما أدى إلى حوادث خطيرة، أبرزها اصطدام ناقلات نفط وسفن تجارية نتيجة بث إشارات مواقع مضلِّلة.
هذا التداخل المتعمّد بين المدني والعسكري ليس استثناءً في سلوك الكيان، بل هو جزء أصيل من عقيدته الأمنية. فالعدو دأب على تحويل الأدوات اليومية إلى وسائل حرب، وعلى تذويب أي فاصل أخلاقي أو قانوني بين ما هو مدني وما هو عسكري، في انتهاك صارخ لكل القوانين والأعراف الدولية.
واللافت أن الميدان الأول الذي اختبر فيه العدوّ هذه السياسات لم يكن إيران، بل فلسطين. ففي الضفّة الغربية والقدس وقطاع غزّة، جرى خلال السنوات الماضية تطوير واختبار أنظمة مراقبة شاملة، وتقنيات تعرّف على الوجوه، وشبكات تتبع بالفيديو، وطائرات مسيّرة، استخدمت لقمع الفلسطينيين وملاحقتهم وتحويل حياتهم اليومية إلى جحيم رقابي دائم. وبعد نجاح هذه التجارب القمعية، أعاد العدوّ وشركاته تسويق هذه الأدوات للعالم تحت عناوين "المدن الذكية" و"السلامة العامة" و"إدارة الحشود".
ويُدرج هذا المسار ضمن ما يُعرف بـ"الاستخدام المزدوج"؛ أي التقنيات القابلة للاستخدام المدني والعسكري معًا. غير أن الواقع يثبت أن هذا العنوان ليس سوى غطاء لتبييض أدوات القمع، خصوصًا في ظل تهرّب الكيان من الالتزام بالاتفاقيات الدولية الناظمة لتصدير هذه التقنيات، واعتماده على قوانين داخلية مليئة بالثغرات تتيح له تصدير أدوات جرى اختبارها على شعوب واقعة تحت الاحتلال.
حتّى داخل الكيان نفسه، انكشفت حقيقة هذه الأدوات، حين جرى استخدامها خلال جائحة كورونا لتعقّب السكان عبر أجهزة الأمن، ما أثار اعتراضات واسعة وفضح زيف الادّعاءات حول "الحياد" و"الخدمة العامة". أما في فلسطين، فقد بلغت هذه السياسات ذروتها مع بناء قواعد بيانات بيومترية وتحويل الحواجز إلى نقاط فرز رقمية، في ما يشبه "سجنًا رقميًا" مكمّلًا للاحتلال العسكري.
إن التجربة تؤكد أن تغيير المسميات وتسويق الأدوات بخطاب مدني لا يغيّر جوهرها. فالتكنولوجيا التي وُلدت في حضن الاحتلال، ونَمَت في بيئة القمع والسيطرة، ستبقى أداة عدوان أينما استُخدمت. ومن هنا، فإن ما كُشف في "حرب الـ12 يومًا" ليس إلا وجهًا جديدًا من وجوه الحرب الصهيونية الشاملة التي تستهدف الإنسان قبل الميدان، وتسعى إلى إخضاع الشعوب عبر السيطرة على بياناتها وحياتها اليومية، تمامًا كما تفعل بالقوّة العسكرية المباشرة.