لبنان
في ظلّ العدوان الصهيوني المتواصل على لبنان، والذي يتخذ أشكالًا متعددة، يبرز انحياز لجنة "الميكانيزم" بشكل فاضح إلى جانب كيان الاحتلال، دون أن تُسجَّل لها أي خطوة بما يتناسب ودورها الذي أنشئت لأجله، رغم التزام لبنان باتفاق وقف إطلاق النار الموقّع في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024.
ومع مرور الوقت، بات واضحًا للبنانيين أنّ "الميكانيزم" تشكّل غطاءً يُعطى من خلاله الضوء الأخضر لكيان الاحتلال لتنفيذ مشاريعه داخل الأراضي اللبنانية، في ظل افتقار اللجنة لأي دور فعلي أو مصداقية حقيقية، يقابله تصعيد في الضغوط الأميركية والصهيونية على لبنان لدفعه نحو تحقيق أهداف العدو.
أمام هذا الواقع، ومع تزايد تدخلات اللجنة في الشأن السيادي اللبناني، وغياب أي إسهام حقيقي لها في تنفيذ بنود الاتفاق أو حماية لبنان، تبرز الحاجة إلى مقاربة قانونية تشرح مشروعية هذا الدور وتحدّد أبعاده.
فبدل أن تبقى هذه اللجنة أداة تنسيق تهدف إلى خفض التصعيد وضبط الإيقاع الأمني، تكشف الوقائع المتراكمة عن تمدّد مقلق في صلاحياتها، يلامس جوهر السيادة اللبنانية ويطرح إشكاليات قانونية وسياسية تتجاوز الأمن إلى حقوق المواطنين ووظيفة المؤسسات الدستورية.
وتزداد خطورة هذا المسار مع ما يظهر من أداء انتقائي في عمل اللجنة، حيث يُلاحظ تساهل واضح أو تجاهل ممنهج للانتهاكات اليومية التي ترتكبها "إسرائيل" بحق السيادة اللبنانية، في مقابل تشدد لافت في التعاطي مع الجانب اللبناني وحده، سواء عبر مطالب أو إجراءات أو ضغوط غير متكافئة.
هذا الخلل البنيوي لا يضرب فقط مبدأ الحياد الذي يُفترض أن يحكم عمل أي لجنة تقنية أو رقابية، بل يفتح الباب أمام تحويل "الميكانيزم" من إطار تنسيقي محدود إلى أداة تدخل سياسي مقنّع، بما يهدّد بتكريس وقائع تتعارض مع الدستور ومع أبسط معايير السيادة والاستقلال الوطني.
يتحدث المختص في القانون الدستوري الدكتور جهاد إسماعيل حول دور لجنة "الميكانيزم" في الإطار القانوني، منطلقًا من حقيقة ثابتة مفادها أن هذه اللجنة استُحدثت عقب إعلان وقف إطلاق النار في السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2024، كوسيلة تنسيقية تقنية محصورة الهدف، تُعنى بتحديد الترتيبات الأمنية على الحدود الجنوبية للبنان ورصد المخالفات بين طرفي الأعمال القتالية، لا أكثر ولا أقل. غير أنّ ما تشهده الممارسة العملية للجنة حتّى اليوم، بحسب إسماعيل، يُظهر انحرافًا واضحًا عن هذا الدور المحدود، وانزلاقًا نحو أداء انتقائي واستنسابي يفتقر إلى التوازن والمشروعية.
ويشير إلى أن اللجنة، بدل أن تضطلع بمهمة رصد الانتهاكات من الطرفين، تغضّ النظر بصورة شبه كاملة عن الاعتداءات المتكرّرة التي يرتكبها العدوّ "الإسرائيلي"، في ما تفرّغت لمتابعة تنفيذ الطرف اللبناني الذي التزم باتفاق وقف الأعمال العدائية بصورة كاملة. ويرجّح أن هذا السلوك يضرب جوهر وظيفة اللجنة ويُفقدها أي ادعاء بالحياد، خصوصًا حين تتحوّل من آلية تقنية إلى أداة ضغط أحادية الاتّجاه.
ويشدّد إسماعيل على أن أحد أخطر أوجه هذا الانحراف يتمثّل في تحريض اللجنة على تفتيش المنازل، في مخالفة صريحة لحرمة المسكن التي كفلها الدستور اللبناني في المادّة الرابعة عشرة، فضلًا عن تدخلها في توجيه تعليمات وأوامر إلى القوى النظامية اللبنانية، وهي قوى تملك أصلًا، وبموجب القوانين النافذة، الصلاحية الحصرية للقيام بهذه المهام. ويرى أن هذا التدخل لا يشكّل فقط تعدّيًا على الصلاحيات، بل مساسًا مباشرًا بمبدأ سيادة الدولة وبهرمية السلطة داخلها.
ويضيف أن اللجنة، رغم ادعائها امتلاك دور رقابي، لم تُمارس حتّى الآن صلاحيتها المفترضة في ترتيب المسؤوليات على الجهة المخالفة، وهو ما يؤكد، برأيه، الطبيعة الانتقائية لعملها. إلى ذلك، يلفت إلى أن اللجنة تفتقر في بنيتها وتشكيلها وآليات عملها إلى أي أساس قانوني داخلي واضح يرعى اختصاصها على امتداد الحدود اللبنانية، ما يفقدها المشروعية الداخلية التي لا يمكن أن تقوم إلا على قاعدة قانونية صريحة، تبدأ بالقانون الوطني قبل أي مرجعية خارجية.
وفي هذا السياق، ينتقد المختص في القانون الدستوري توسيع نطاق عمل اللجنة عبر ضمّ عنصر "مدني" إليها، معتبرًا أن هذا الأمر تجاوز الدور المنشود لها كلجنة تقنية - تنفيذية يُفترض أن يُحصر عملها في الحقل العسكري الصرف، وتحديدًا في إيجاد الآلية التطبيقية للقرار 1701. أما إدخال أبعاد سياسية أو مدنية على عملها، فيُعدّ، بحسب توصيفه، خروجًا عن الاتفاق والقرار معًا، وليس مجرد تجاوز للآلية التنفيذية.
ومن الزاوية الدولية، يستند إسماعيل إلى أحكام ميثاق الأمم المتحدة، موضحًا أن المادّة 33 منه توجب على أطراف أي نزاع يهدّد السلم والأمن الدوليين أن يسعوا بدايةً إلى حلّه بالوسائل السلمية، وعلى رأسها المفاوضة. إلا أن هذه القاعدة، كما يوضح، ليست مطلقة ولا تبقى واجبة التطبيق عندما يتحوّل النزاع إلى نهج عدواني واضح ضدّ دولة معيّنة، في ظل امتناع مجلس الأمن عن اتّخاذ التدابير اللازمة لردع هذا العدوان.
ويشرح في ختام حديثه لموقعنا أن ميثاق الأمم المتحدة، في هذه الحالة، يمنح الدولة المعتدى عليها حق الدفاع المشروع عن النفس فور تعرّضها لاعتداء مسلّح، وفق ما تنص عليه المادّة 51 صراحة. وبالتالي، فإن التمسك بخيار المفاوضة يسقط في حالتين متلازمتين: سقوط الوسائل السلمية من جهة، وامتناع مجلس الأمن عن أداء دوره في قمع العدوان من جهة أخرى. ويؤكد أن الميثاق لا يفرض التفاوض تحت وطأة الاعتداء، لأن في ذلك منحًا للمعتدي امتيازات لم ينصّ عليها القانون الدولي.
وفي هذا الإطار، يذكّر إسماعيل بأن الفقرة الثالثة من المادّة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة تشترط التزام الدول بحسن النية كمدخل أساسي لكفالة الحقوق، معتبرًا أن غياب هذه النية يسقط أي ادعاء بشرعية مسارات مفروضة بالقوّة. كما يستند إلى المادّة 51 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، التي التزم بها لبنان بموجب قانون، والتي تنص بوضوح على بطلان أي تعبير عن رضا الدولة بالالتزام بمعاهدة إذا تمّ التوصل إليه نتيجة إكراه أو تهديد موجّه إلى ممثليها.
وبناءً على ذلك، يخلص إسماعيل إلى أن أي اتفاق أو تسوية تُفرض على لبنان تحت وطأة التهديد والعدوان "الإسرائيلي" تفتقر إلى المفاعيل القانونية، وتُعدّ باطلة من حيث الأساس، لأنها نتاج إكراه يُبطل الرضا ويُسقط المشروعية. وفي ضوء هذا التحليل، يرى أن ما يجري اليوم تحت عنوان "الميكانيزم" لا يمكن فصله عن سياق أوسع من الضغوط السياسية والقانونية التي تستهدف تقليص هامش السيادة اللبنانية، تحت غطاء تقني لا يصمد أمام أبسط اختبار دستوري أو قانوني.