خاص العهد
أكد الباحث التونسي في علم الاجتماع ممدوح عز الدين أن سنة 2025 تميزت، في تونس، بالحراك الشعبي والمدني التضامني مع غزة . أوضح، في حديث خاص لـ" العهد " الإخباري، أن غزة برزت في الوعي التونسي بوصفها أكثر من قضية سياسية، بل امتحانًا أخلاقيًا يعكس تمثلات المجتمع لقيم الإنسانية والحق في الحياة.
وقال إن التونسيين تفاعلوا مع مشاهد القصف والمعاناة؛ لا لكونها تطورًا عسكريًا في منطقة متوترة، بل بوصفها مأساة إنسانية تمسّ جوهر القيم التي تشكّل الضمير الجمعي، وعلى رأسها حماية المدنيين واحترام الحق في الحياة.
مكانة خاصة
كما لفت الباحث التونسي إلى أن هذا التفاعل لا يمكن فصله عن المكانة الخاصة التي تحتلها القضية الفلسطينية، في الذاكرة الجماعية التونسية. إذ إن فلسطين، عبر عقود، لم تُختزل في بعدها الجغرافي أو السياسي، بل ارتبطت رمزيًا بفكرة التحرر وبالحق في تقرير المصير وبمقاومة نزع الإنسانية. لذلك لم يكن التعاطف مع غزة وليد اللحظة، بل كان تعبيرًا عن تمثّل راسخ يرى في معاناة الفلسطينيين قضية إنسانية جامعة، تتجاوز الاصطفافات والاختلافات، وتخاطب الضمير قبل الموقف.
وتابع بإن هذا الحضور المكثّف للصورة، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أسهم في بناء قرب وجداني عميق بين المتلقي التونسي والضحايا، ورسّخ تمثّلًا يرى في حماية المدنيين أولوية أخلاقية تتقدّم على الحسابات السياسية الضيّقة.
أشكال متعددة من التضامن
كذلك أشار الباحث في علم الاجتماع إلى أن التونسيين عبروا عن تضامنهم بأشكال متعددة، اتسمت في مجملها بالطابع السلمي والرمزي، من تعبيرات فردية وجماعية في الفضاء العام، إلى نقاشات واسعة في الفضاء الرقمي، مرورًا بمبادرات ثقافية وإعلامية، شكّلت حالًا من التضامن الهادئ لكنه واسع، عكس رغبة جماعية في عدم التطبيع مع مشاهد الألم، وفي الإبقاء على القضية حاضرة في الوجدان العام. وأضاف محدثنا :"هذه الممارسات، على الرغم من بساطتها أحيانًا، تحمل دلالة اجتماعية عميقة، إذ تؤكد قدرة المجتمع على إنتاج موقف أخلاقي مشترك، حتى في ظل تباين الرؤى والخلفيات".
المقاطعة
عن أهمية المقاطعة الاقتصادية لدعم غزة وفلسطين؛ أجاب بالقول :"لقد برزت المقاطعة الاقتصادية لبعض المنتجات، بوصفها شكلًا من أشكال التعبير المدني الواعي، فقد وجد كثير من الأفراد في هذا السلوك وسيلة سلمية لترجمة موقفهم الأخلاقي إلى ممارسة يومية، تربط بين الاستهلاك والمسؤولية، وبين الاختيار الفردي والانتماء إلى جماعة قيمية أوسع". ورأى عز الدين أن هذه الممارسات تعكس، ومن منظور اجتماعي، تحوّلًا في الوعي، فلم يعد التضامن حبيس الخطاب أو العاطفة، لقد أصبح جزءًا من السلوك اليومي، مهما كانت حدوده وتأثيره النسبي.
أما عن المبادرات الجمعياتية وغيرها أوضح قائلاً:"لم يبقَ التضامن التونسي مع غزة محصورًا في التعبير الرمزي أو السلوكي الفردي، لقد وجد امتداده في مبادرات وطنية وجمعياتية سعت إلى تحويل التعاطف إلى فعل منظّم. إذ شهدت الساحة التونسية حركة لافتة قادتها جمعيات إنسانية ومنظمات من المجتمع المدني ومبادرات تطوعية مستقلة، تمحورت في جمع التبرعات وتوفير المساعدات الطبية والغذائية وتنظيم حملات دعم إنساني، عكست درجة عالية من الانخراط الشعبي، لاسيما في صفوف الشباب."
وتابع بأن هذه المبادرات تميزت بطابعها القاعدي والأفقي، حيث تشكّلت، في كثير من الأحيان، خارج الأطر التقليدية، عبر شبكات محلية وتنسيقيات تطوعية اعتمدت على الثقة المتبادلة والعمل الجماعي. أما عن رؤيته لكل هذا الحراك من منظور سوسيولوجي، فقد قال :"هذه التحركات تكشف ديناميكية في التحوّل في أشكال الفعل التضامني، فلم يعد المواطن ينتظر المبادرة من الهياكل الكبرى، لقد بات فاعلًا مباشرًا، يسعى، ضمن إمكاناته، إلى الإسهام في دعم القضايا التي يعدها عادلة".
قوافل الصمود
كما رأى عز الدين أن: "قوافل الدعم والمساندة اكتسبت بعدًا رمزيًا خاصًا في الوعي التونسي". وتابع بالقول :"حتى عندما حالت التعقيدات السياسية واللوجستية دون وصول هذه القوافل ماديًا إلى غزة، أدّت وظيفة اجتماعية أساسية، تمثلت في إعادة تأكيد الاستعداد الجماعي للفعل. في تحويل التضامن من موقف وجداني إلى التزام عملي. لقد تحوّلت القوافل إلى رسالة رمزية قوية، مفادها أن العزلة المفروضة على الفلسطينيين لا تُقابل بالصمت، بل بمحاولات مستمرة لكسرها، ولو على مستوى المعنى".
ورأى الباحث في علم الاجتماع أن رسوّ "أسطول الصمود" في تونس يعدّ إحدى اللحظات الأكثر دلالة في هذا المسار. إذ قد تجاوز هذا الحدث طابعه الإخباري ليصبح مناسبة اجتماعية جامعة، استُقبل فيها الأسطول بزخم شعبي لافت، تجلّى في الحضور الكثيف. في الأعلام والشعارات، والتي ركّزت على البعد الإنساني للتضامن، لم يكن الاستقبال مجرد دعم لمبادرة بعينها، هو لحظة التقاء بين الذاكرة النضالية والراهن وبين الفعل الرمزي والموقف الأخلاقي.
وفي تحليله للدعم المجتمعي للأسطول من منظور اجتماعي، أوضح ان هذا الحدث مثل لحظة تجسّد للتضامن، فقد خرج من حيّز الخطاب إلى الفضاء العام، واكتسب شكلًا مرئيًا وملموسًا. وأضاف: "لقد شكّل الأسطول نقطة تركّز لمشاعر متراكمة من التعاطف والحزن والأمل، وسمح بتفريغها في إطار جماعي منظّم وسلمي، كما أعاد إنتاج الشعور بالانتماء إلى جماعة إنسانية أوسع تتجاوز الحدود الجغرافية من دون أن تلغي الخصوصيات الوطنية".
ورأى محدثنا أن هذا الزخم أعاد القيمة لدور المجتمع المدني والمبادرات الوطنية في القضايا الإنسانية الكبرى، لا من باب الادعاء بتغيير موازين القوى، بل من خلال تثبيت قيمة الشهادة الأخلاقية. إذ حمل استقبال الأسطول رسالة مزدوجة: تضامنًا مع غزة وتعزيزًا للثقة في قدرة المجتمع على التعبير عن مواقفه الجامعة، وعلى التنظيم حول قضايا إنسانية، حتى في سياقات دولية معقّدة. وأكد أن هذه الدلالة تتكرر، في مبادرات أخرى، هي أقل ظهورًا إعلاميًا، لكنها لا تقل أهمية، مثل حملات التبرع بالدم والدعم الرمزي عبر الفضاء الرقمي وتنظيم لقاءات وندوات توعوية عن الوضع الإنساني في غزة. هذه الأفعال، مع محدودية أثرها المباشر، أسهمت في بناء ما يمكن تسميته "اقتصادًا أخلاقيًا للتضامن"، يقوم على تبادل المعاني والقيم، وعلى تثبيت فكرة أن الانخراط في القضايا العادلة جزء من المواطنة الواعية.
استدامة التضامن
عن استدامة التضامن، وكيفية الانتقال من رد الفعل إلى الفعل طويل النفس؛ أجاب بالقول :" إن التجارب السابقة تُظهر أن الاهتمام الإعلامي قد يتراجع، والوجدان العام قد يُرهق بتكرار المآسي. من هنا؛ تبرز الحاجة إلى تحويل التعاطف إلى وعي متراكم، وإلى إدماج القضية الفلسطينية في مسارات ثقافية وتربوية وإعلامية تضمن حضورها المستمر، لا بوصفها حدثًا طارئًا، بل كونها قضية إنسانية ذات أبعاد تاريخية وأخلاقية". وبيّن أن المقاربة السوسيولوجية هي أداة أساسية لفهم كيفية تشكّل التضامن داخل المجتمعات، وكيف يمكن دعمه وتطويره من دون تحويله إلى خطاب حاد أو إقصائي. إذ إن المقاربة الهادئة، والتي تشتغل على التمثلات والسياقات والممارسات، تسمح بتعزيز ثقافة إنسانية جامعة، ترى في دعم الضحايا فعلًا أخلاقيًا، وفي احترام الحياة قيمة غير قابلة للتجزئة.
خلص عز الدين إلى أن: "تفاعلات التونسيين مع ما يجري في غزة تكشف ضميرًا جمعيًا حيًّا، يرى في حماية الإنسان أولوية، وفي التضامن قيمة تتجاوز الحدود. هي تفاعلات تعبّر عن رغبة في التمسك بالمعنى في زمن الألم، وعن إيمان بأن الكلمة والموقف والفعل السلمي تظل أدوات أساسية للدفاع عن الكرامة الإنسانية. وأضاف بالقول :"بهذا المعنى، تبقى غزة في الوعي التونسي أكثر من مأساة تُروى، بل لحظة وعي جماعي تُذكّر بأن الإنسانية لا تُقاس بالقوة، بل بالقدرة على الانحياز للحق حين يكون الإنسان هو الضحية".