مقالات

كل قادة الدول الخليجية الست، ومعهم الرئيس السوري أحمد الشرع، حضروا إلى العاصمة السعودية الرياض، للمشاركة في لقاء "قمة" مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي قام بأول جولة له في منطقة الشرق الأوسط، منذ دخوله البيت الأبيض مجددًا قبل أربعة شهور، شملت كلًّا من السعودية وقطر والإمارات.
بيد أن بعض ـ أو أغلب ـ هؤلاء القادة اعتذروا ولم يحضروا في قمة بغداد العربية الرابعة والثلاثين، والتي عقدت يومي السابع عشر والثامن عشر من شهر أيار-مايو الجاري، ومعهم قادة عرب آخرون، من بينهم الملك الأردني عبد الله الثاني، والرئيس اللبناني العماد جوزاف عون، والرئيس السوري أحمد الشرع، والملك المغربي محمد السادس، وربما آخرون.
قد تختلف وتتباين أسباب ومبررات وظروف غياب كل واحد من هؤلاء القادة والزعماء، في الوقت الذي حضرت شخصيات أجنبية بصفة ضيوف، مثل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ورئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، وممثلين عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتركيا ودول أخرى.
ولا شك أن عدم الحضور في مثل هذا المحفل السياسي العربي، وإن كان واضحاً طبيعة ومستوى نتائجه ومخرجاته، يطلق رسائل وإشارات غير طيبة، بعضها قد يعكس قدرًا من البرود في العلاقات بين البلد المضيف، والآخر الذي حضر وشارك بمستوى سياسي أقل من المستوى المطلوب والمفترض، وبعضها قد يؤشر إلى وجود مخاوف وهواجس أمنية معينة، وبعضها الآخر ربما ينطوي على تلميحات بوجود عوامل خارجية وراء عدم الحضور بالمستوى المطلوب والمفترض.
ولعل القراءة الإجمالية العامة لـ"مقاطعة" عدد من الرؤساء والملوك والأمراء العرب لقمة بغداد، لا يمكن أن تتضمن أسبابًا ومبررات موضوعية مقنعة لتلك المقاطعة، ما عدا الرئيس السوري أحمد الشرع، إذ إن خلفيته "الإرهابية" على الساحة العراقية، وطبيعة الأجواء السياسية والشعبية الرافضة لمجيئه، والتي توضحت وتبلورت خلال الشهرين المنصرمين، أنتجت رؤية مشتركة بين بغداد ودمشق، مفادها أن غياب الشرع أفضل من حضوره، وإن كان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني قد وجه دعوة رسمية له، وفقاً للسياقات والأعراف البرتوكولية المعمول بها في النظام الداخلي لجامعة الدول العربية.
قبل ثلاثة عشر عاماً، وتحديدًا في عام 2012، حينما استضافت بغداد القمة العربية الثالثة والعشرين، كان مبررًا إلى حد ما، عدم التفاعل العربي مع القمة، لأن المشهد الأمني العراقي كان ما يزال يعاني من الارتباك والاضطراب والفوضى، بسبب إرهاب الجماعات والتنظيمات التكفيرية المسلحة، وفي مقدمتها تنظيم القاعدة الذي حظي بدعم وإسناد سياسي ومالي وإعلامي ومخابراتي غير مسبوق من عدة أطراف عربية، تبنت أجندات ومشاريع تخريبية لإسقاط النظام السياسي الجديد وإفشال التجربة الديمقراطية الناشئة في العراق.
وفي ذلك الحين، أي قبل ثلاثة عشر عامًا، كانت الظروف والأوضاع السياسية العراقية، وارتباطًا بالظروف والأوضاع الأمنية، والتجاذبات والخلافات والتناحر بين الفرقاء السياسيين، مشوبةً بانعدام الاستقرار المطلوب، وبالتالي هشاشة منظومات ومؤسسات الدولة، وفي مقدمتها الحكومة.
وفي ذلك الحين، وتحديدًا في عام 2012، كان العراق معزولًا أو شبه معزول عن محيطه العربي وفضائه الإقليمي، وكان ينظر إليه على أنه بؤرة للمشاكل والأزمات، ونموذج للفوضى بشتى أشكالها وصورها، حتى أن الكثيرين كانوا يشبهونه بأفغانستان والصومال!
لكن بعد أكثر من عقد من الزمن، تغيرت الصورة كثيرًا، وتبدلت المظاهر والأحوال، إذ واجه العراق تحديات وتهديدات أمنية خطيرة، حينما اجتاح تنظيم داعش ثلث مساحته الجغرافية صيف عام 2014، ونجح بعد أعوام قليلة في إلحاق الهزيمة به، وشيئًا فشيئًا أخذ الأمن يستتب في مختلف المدن والمناطق، مقرونًا بتعايش مجتمعي وتوافق سياسي ملحوظ، فتح آفاقًا رحبة للنهوض الاقتصادي، وإن بإيقاع بطيء، وانفتاح على الفضاءين الإقليمي والدولي، بدت معطياته ومظاهره واضحة وجلية إلى حد كبير، عبر حراك سياسي ودبلوماسي واقتصادي وثقافي بمختلف الصعد والمستويات والميادين.
وبمرور الوقت، بات العراق طرفًا أساسيًا ومحوريًّا في الحلول والمعالجات بعدما كان جزءًا من المشاكل والأزمات، وأصبح يمثل بيئة جاذبة للتفاهم والحوار، ومكانًا مناسبًا للعمل والاستثمار، ونقطة تلاقٍ للخصوم والأعداء.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن الظروف والتحديات والمصاعب التي تواجهها بعض الشعوب العربية، لا سيما الشعب الفلسطيني، تحتم على الزعماء العرب بمستوياتهم العليا أن يلتقوا ويبحثوا في آليات وإمكانيات مساعدة ومساندة إخوانهم وأشقائهم في فلسطين واليمن وسورية والسودان وغيرهم، وكانت قمة بغداد، أفضل مناسبة ومحفل لذلك، فيما لو كانوا صادقين في ادعاءاتهم وشعاراتهم الداعمة لفلسطين.
صحيح، أن القضية الفلسطينية تصدرت جدول أعمال قمة بغداد العربية الرابعة والثلاثين، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا، لأن القرارات الكبرى والخطوات المهمة، تحتاج إلى حضور قوي وفاعل، ومصداقية تترجم الأقوال إلى أفعال.
من الصعب بمكان الوصول إلى تفسير مقنع ومقبول لحضور لقاء الرياض مع ترامب، و"مقاطعة" قمة بغداد في العراق، علمًا أن أولوية لقاء الرياض تمثلت ببحث كيفية تحويل المليارات من ثروات الخليج إلى ألاسواق الأميركية، بينما تمثلت أولوية قمة بغداد في البحث عن سبل إنقاذ الشعب الفلسطيني من اجرام الكيان الصهيوني، ووضع حد لمأساته الإنسانية التي ما كان لها أن تحصل وتتكرر لولا دعم ومباركة وتشجيع واشنطن وعواصم الغرب، وصمت وتخاذل عواصم العرب.