اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي غزة: شهداء وجرحى من المجوّعين أثناء انتظارهم المساعدات

مقالات

ذاكرة النصر جبهة لا تُقهر: استحضار 2006 واجب وطني
مقالات

ذاكرة النصر جبهة لا تُقهر: استحضار 2006 واجب وطني

57

في الوعي الجمعي للشعوب التي خاضت معارك وجودية، الذاكرة ليست ترفًا ولا حنينًا إلى الماضي، بل هي مكوّن أساسي من مكونات الأمن القومي، وسلاح موازٍ للبندقية، وحصن ردعي لا يقل أهمية عن الجبهة الأمامية. إنها "الذاكرة المقاتلة" التي ترفض أن تدفن انتصارات الأمس تحت غبار الزمن، بل تعيد إنتاجها كطاقة سياسية ومعنوية قادرة على مواجهة تهديدات الحاضر وصياغة موازين المستقبل. هذه الذاكرة ليست مجرد استرجاع للأحداث، بل إعادة ضخٍ للقيم المؤسسة في شرايين المجتمع، لتصبح جزءًا من منظومة الدفاع الوطني.

حرب تموز 2006، وقبلها تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة أيضًا، تمثل النموذج الأوضح لهذه الذاكرة الحية. لقد كسرت تلك الحرب المعادلات السائدة: جيش "إسرائيلي" وُصف بأنه لا يُقهر، وأسقطت إرادة دولية - أميركية وعربية متآمرة، في مقابل شعب صغير الحجم عدديا، وقوي الإرادة. على مدى ثلاثة وثلاثين يومًا، انقلبت المعادلات العسكرية والنفسية، من عملية الأسر إلى صمود الضاحية والجنوب، وصولًا إلى مشهد الانسحاب "الإسرائيلي"  من دون إنجاز حاسم، وإقرار العدوّ بفشل أهدافه الإستراتيجية، وبشكل رسمي من قبل لجنة تحقيق حكومية، لجنة فينوغراد، التي أقرت بأن ""إسرائيل"  بادرت إلى الحرب وفشلت".

هذا الانتصار لم يكن حدثًا عابرًا، بل تحوّل إلى "رصيد إستراتيجي" في وعي اللبنانيين والعرب، أثبت أن التفوق العسكري يمكن كسره إذا تلازمت الإرادة الصلبة مع التكتيك المبتكر والغطاء الشعبي.

منذ ذلك الحين، أصبحت ذاكرة 2006 أداة لتحرير الخيال السياسي والعسكري من قيود الاستسلام، وإعادة تعريف الممكن في معركة الإرادات. لكن هذه الذاكرة تحتاج إلى إدارة واعية، عبر التوثيق الدقيق لوقائع النصر، وصياغة رسائل قوية تُدرج في المناهج التعليمية ووسائل الإعلام والفنون، وإنشاء أرشيف رقمي يضمن تحصين الرواية من التحريف أو النسيان. فالانتصار الذي يبقى في الكتب يموت بموت قارئيه، أما الذي يعيش في التعليم والإعلام والوجدان، فيتحول إلى قوة رادعة تشتغل كلما دعت الحاجة.

في اللحظة السياسية الراهنة، حيث تتصاعد الضغوط الأميركية والدولية ويتقدّم ملف نزع سلاح المقاومة إلى واجهة النقاش الرسمي، تصبح ذاكرة 2006 وقبلها التحرير، جبهة دفاعية بحد ذاتها. من يطالب اليوم بتجريد المقاومة من سلاحها، يسعى ضمنًا إلى قطع الصلة بين ذلك النصر وآفاق المستقبل. هذه ليست معركة عاطفية، بل إستراتيجية، لأن ذاكرة الانتصار تحمل الدليل الملموس على أن "إسرائيل" ليست قوة مطلقة، وأن بيئة المقاومة حين توحدت إرادتها مع قدرات المقاومة، استطاعت أن تكسر خطة أميركية "إسرائيلية" تستهدف المقاومة وإعادة إنتاج شرق أوسط جديد، كما أعلنت في ذلك الحين وزير الخارجية الأميركية، كونداليزا رايس.

المسألة هنا تتجاوز النقاش حول "كلفة " المقاومة، لتصل إلى جوهر القدرة على البقاء. فالرواية التي تقول إن المقاومة سبب للدمار وليست رصيدًا، أو إنها لم تعد خيارًا دفاعيًا أمام حجم التهديد "الإسرائيلي"، تتهاوى أمام شهادة 2006 الحية. حينها، كان التفوق "الإسرائيلي"  ليس أقل وضوحًا من الآن، والغطاء الدولي للعدوان أكثر اتساعًا من الان، ومع ذلك سقطت صورة الحسم أمام صمود ميداني ومعنوي متكامل. واليوم، في بيئة إقليمية ودولية أكثر تعقيدًا، تصبح تلك الشهادة التاريخية أداة لتفنيد الشبهات وتبديد حملات التشكيك.

على المستوى النفسي، تمنح هذه الذاكرة الناس الثقة بأن أي تفريط في عناصر القوّة ليس مجرد إجراء تقني، بل مساس بجوهر القدرة على البقاء. وعلى المستوى الإستراتيجي، تؤكد على قدرة المقاومة على إعادة إنتاج الانتصارات. لكن الخطر يكمن في تحويل ذاكرة النصر إلى "أيقونة جامدة" تستحضر في الاحتفالات فقط، بدلًا من أن تبقى "سلاحًا متحركًا" جاهزًا للعمل في ساحات السياسة والدفاع. وهذا ما يريده الخصم: نزع السلاح المادي بالتوازي مع إفراغ السلاح المعنوي من مضمونه.

لذلك، فإن واجب القوى الوطنية والمجتمعية هو الدفاع عن السلاحين معًا: المادي والمعنوي. إدارة الذاكرة لا تقل أهمية عن صيانة الترسانة، وتحويل النصر إلى رصيد مستمر يتجدد في المناهج والإعلام والخطاب العام. فالمجتمع الذي يفقد ذاكرته المقاتلة، يفقد تدريجيًا إرادته على الدفاع، حتّى لو امتلك السلاح. والعكس صحيح: مجتمع يملك ذاكرة حية وفاعلة يمكنه أن يعوض كثيرًا من الفوارق المادية في لحظات الحسم.

لقد فهمت الأمم التي خاضت حروب البقاء أن معركة الوعي لا تقل شراسة عن معركة الميدان، وأن من يربح معركة الذاكرة يربح نصف معركة الأرض والسيادة. ومن هنا، فإن الحفاظ على ذاكرة تموز 2006 ليس خيارًا ترفيهيًا ولا تذكاريًا، بل واجب إستراتيجي وأمانة وطنية. فكما انتصر لبنان بالأمس رغم الحصار والجراح، يمكنه أن ينتصر غدًا إذا تمسك بما صنعه وحمى معناه. هذه الذاكرة ليست ملك جيل بعينه، بل عهد بين الأجيال، يحفظ الدم الذي سُفك، والكرامة التي رُفعت، والسيادة التي صينت. ومن يفرط بها، يفرط بالمستقبل. أما من يحميها، فيحمي نفسه وأمته من الانكسار، ويبقي راية النصر مرفوعة مهما تغيرت موازين القوى.

الكلمات المفتاحية
مشاركة