مقالات

في السنوات الأخيرة، أصبحت الصين محورًا رئيسيًا في السياسات الأميركية، وخصوصًا في ظل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يعتبر أن الصين تمثل التحدّي الأكبر للهيمنة الأميركية، سواء في المجال الاقتصادي أو التكنولوجي أو العسكري، وبالتالي السياسي. وقد تبنى ترامب خطابًا وسياسات حادة تجاه بكين، اعتبرها هو وأنصاره ضرورية لوقف ما يرونه تهديدًا صينيًا لمصالح الولايات المتحدة وهيمنتها العالمية.
خلفية سياسات ترامب
ينطلق ترامب في نظرته للصين من قناعة راسخة بأنها باتت المستفيد الأكبر من العولمة الاقتصادية ومن انفتاح الأسواق الأميركية أمام بضائعها واستثماراتها، وأنها استغلت هذا الانفتاح لتتحول من دولة نامية إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهي على وشك أن تتفوق على الولايات المتحدة خصوصًا إذا ما أخذنا في الاعتبار عامل القوّة الشرائية. ويعتبر ترامب أن هذه الطفرة الاقتصادية لم تكن طبيعية أو عادلة، بل كانت ثمرة ما يعتبره اتفاقيات تجارية "سيئة" وقعتها الادارات الأميركية السابقة مع بكين وأضرت بالاقتصاد الأميركي وأدت إلى فقدان الولايات المتحدة لملايين الوظائف خصوصًا في القطاع الصناعي.
ويرى ترامب وأنصاره أن الصين لم تكتفِ بالمنافسة الاقتصادية، بل وظفت قدراتها لتعزيز نفوذها العسكري، وتوسيع حضورها الجيوسياسي في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، وتمكّنت من استغلال التكنولوجيا لتعزيز قوتها الإستراتيجية. ومن هذا المنطلق، ركّزت سياسات ترامب على فرض تعريفات جمركية كبيرة على السلع الصينية الموردة إلى السوق الأميركية، وعلى وضع عراقيل امام حصول بكين على التقنيات الأميركية المتقدمة، مع السعي لتقليل اعتماد الولايات المتحدة على سلاسل التوريد القادمة من الصين، وخاصة في القطاعات الحساسة مثل أشباه الموصلات والمعادن النادرة والاستعاضة عنها بدول أخرى وعلى رأسها الهند.
ويعتبر ترامب أن المواجهة المباشرة مع بكين تشكّل الخيار الأفضل لردع الصين، إذ يعتبر أن السياسة الأميركية السابقة القائمة على علاقات اقتصادية مدمجة مع الصين في الاقتصاد العالمي لم تحقق أهدافها في دفع بكين نحو اللبرلة الاقتصادية والسياسية الداخلية أو الدخول تحت مظلة الهيمنة الأميركية العالمية. بل إن ما قامت به بكين هو انشاء منظمات دولية مثل منظمة شنغهاي ومنصة بريكس اللتين باتتا تشكلان بديلًا عن منظومة العلاقات الدولية التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية تحت الهيمنة الأميركية. هذا جعل ترامب يعتمد سياسات تجاه الصين تستند إلى الضغوط الاقتصادية وتسعير سباق التسلح وبناء تحالفات عسكرية في المحيطين الهندي والهادئ مثل التحالف الرباعي بين واشنطن ونيودلهي وطوكيو وكانبيرا، وتحالف اوكوس بين الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا، مع تعزيز العلاقات مع تايوان كورقة ضغط على بكين. ويعتبر داعمو ترامب أن هذا يشكّل دفاعًا مشروعًا عن مصالح الولايات المتحدة، ويربطون بينه وبين مبدأ "أميركا أولًا" الذي يضع حماية الاقتصاد الأميركي فوق أي اعتبار.
نتائج عكسية؟!
لكن مراقبين يرون أن سياسات ترامب ستؤدي إلى عكس ما يبتغيه وأنها ستؤدي في المحصلة إلى ضرب الهيمنة الأميركية العالمية. ويأخذ هؤلاء على الرئيس الأميركي افتقاره إلى إستراتيجية شاملة ومتكاملة للأمن القومي الأميركي تجمع بين الأمن والدبلوماسية والاقتصاد. وهم يعتبرون أن ما فاقم الأمر هو انسحاب الولايات المتحدة من عدد من المنظمات الدولية التي ساهمت هي بإنشائها لتكون أدوات لهيمنتها العالمية مثل منظمة الصحة العالمية و"اليونيسكو" في الوقت الذي زادت الصين من حضورها ودعمها لهذه المنظمات ما زاد من نفوذها داخلها وساهم بتعطيلها كأدوات للهيمنة الأميركية. وقد منح هذا بكين قدرة أكبر على التأثير في السياسات الدولية وزاد من حضورها في عالم الجنوب أو العالم الثالث.
كذلك فإن السياسات التي اعتمدتها الادارات الأميركية السابقة حتّى عهد ترامب الحالي بإظهار العداء تجاه روسيا والصين وتهديدها لأمنهما القومي جعلت موسكو وبكين توثقان تحالفهما وتؤطرانه في منظمات دولية ساهمتا بإطلاقها وعلى رأسها منظمة شنغهاي للتعاون ومنظمة بريكس. وهذا أدى إلى اغلاق البر الاوراسي امام النفوذ الأميركي بما يشكّل تهديدًا كبيرًا للهيمنة الأميركية العالمية.
كذلك فإن سياسات ترامب والادارات التي سبقته ساهمت في تخلف الولايات المتحدة عن ركب التفوق التكنولوجي لصالح الصين حيث تتفوق بكين اليوم في مجالات عدة من ضمنها الذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا البطاريات والطاقة الشمسية والاتّصالات المتقدمة. في المقابل فإن ترامب، وبنتيجة ضغوط للوبيات التي دعمته اقتصاديًا، يركز على دعم قطاعات اقتصادية غير متطورة تكنولوجيًّا مثل الفحم الحجري والنفط الاحفوري في مقابل تقليصه للدعم المالي المقدم للبحث العلمي، وكلّ هذا ساهم في تراجع القدرة التنافسية للولايات المتحدة على الصعيد التكنولوجي.
والجدير ذكره أن سياسات ترامب العدائية لم تقتصر فقط على الخصوم وعلى رأسهم الصين بل هي طالت أيضًا حلفاء تقليديين للولايات المتحدة مثل الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك واليابان وكوريا الجنوبية والتي فرض عليها جميعًا تعريفات جمركية عالية جدًّا. فلقد ساهم هذا في ضعضعة الجبهة الغربية ضدّ الصين بل ودفع ببعض هذه الأطراف مثل المكسيك وكندا وبعض الدول الأوروبية إلى مراجعة علاقات التبعية مع الولايات المتحدة والسعي لأخذ مسافة معها لصالح علاقات أكثر توازنًا مع الصين.
ومع وضع قيود على الجامعات الأميركية خصوصًا لجهة استقبال طلبة اجانب ومن ضمنهم الطلبة الصينيون بذريعة المخاوف الأمنية ومكافحة الهجرة غير المشروعة ومكافحة الطلاب المؤيدين للقضية الفلسطينية، فإن ضررًا كبيرًا لحق بالجامعات ومراكز الابحاث الأميركية وقدرتها على اجتذاب مهارات أجنبية لعبت دورًا كبيرًا في العقود السابقة في تعزيز التفوق الأميركي على الساحة الدولية في مختلف المجالات.
النجاحات الصينية
في المقابل استفادت الصين من الأخطاء الأميركية على مدى العقود السابقة لتعزيز موقعها على الساحة الدولية كقوة اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية. فعلى مدى العقود السابقة لم تدخل بكين في حروب طويلة ومكلفة في مقابل اشعال الولايات المتحدة لعشرات الحروب الطويلة والمكلفة للبلدان التي تم استهدافها وأيضًا للولايات المتحدة، علمًا أن حربي افغانستان 2002 والعراق 2003 تسببتا بتفجر أزمة اقتصادية في الولايات المتحدة لا تزال آثارها إلى اليوم. وقد وجهت الصين مواردها نحو التنمية الداخلية والاستثمار في الخارج. كما وسّعت نفوذها في الدول النامية عبر مبادرة "الحزام والطريق" التي أطلقتها في العام 2013 وعبر الاستثمار في البنية التحتية حول العالم وخصوصًا في افريقيا، مستفيدة من الفراغ الذي خلفه الانكفاء الأميركي بذريعة "أميركا أولًا" وهو الشعار الذي رفعه ترامب.
وفيما تجد الصين اليوم نفسها في موقع قوي على الساحة الدولية في ظل قيادة قوية متمثلة بالرئيس شي جين بينغ، فإن الولايات المتحدة تواجه سلسلة تحديات داخلية وخارجية تعيق قدرتها على المنافسة. فالسياسات الانعزالية الأميركية والتورط في عدد كبير من الحروب وتحريك الغواصات النووية باتّجاه المياه الإقليمية الروسية والصينية عمّق من التحالف والتعاون العسكري بين بكين وموسكو.
لقد انطلق ترامب وداعموه من فرضية أن سياسة متشددة تجاه الصين ضرورية لحماية الاقتصاد الأميركي وإعادة التوازن في العلاقات التجارية والحفاظ على الهيمنة الأميركية العالمية. لكن الواقع يفيد بأن السياسات الترامبية ستؤدي إلى نتائج عكسية. ويعتبر معارضو ترامب الأميركيون انه يجب اعتماد سياسة مغايرة مع الصين لا تقوم على الحروب الجمركية مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم ولا على خطاب عدائي تجاه بكين، بل على سياسة صارمة وفي الوقت نفسه تعتمد على القوّة الذكية القائمة على إعادة بناء علاقات قوية مع الحلفاء والانخراط بفاعلية في المنظمات الدولية التي أُوجدت في الأساس لخدمة الهيمنة الأميركية وإلا فإن ترامب الذي يرفع شعار "أميركا أولًا"، قد يكون يعمل في حقيقة الأمر لتحقيق مصالح الصين أولًا.