مقالات

سيكثر الحديث عن تسونامي "التنمية والوفاء" الذي حققه جمهور الثنائي الوطني وبيئته، في الانتخابات البلدية والاختيارية، فما أبداه هذا الجمهور من وثاقة انتماء لخياراته السياسية والوطنية يستدعي الوقوف مليًّا على دلالاته وامتداداته البنيوية في التاريخ والحاضر والمستقبل وأثره في إعادة رسم خارطة القوى في فسيفساء الحالة اللبنانية الداخلية.
يدفع إلى هذه الخلاصة – بانتظار تأكيدها مع رسو قارب الانتخابات في رحلتها الأخيرة في الجنوب والنبطية - النتائج التي تمخضت عنها انتخابات جبل لبنان وبيروت والبقاع. وهي المناطق التي تمتاز بالوجود الوازن للناخب الشيعي، مع وجود تنوّع كبير للطوائف الأخرى والاتجاهات السياسية المختلفة، ما فرض حصول معارك طبيعية حملت بنتائجها مجموعة من الرسائل؛ وأهمها:
1. أثبت الناخب الشيعي، على اختلاف حجم حضوره وانتشاره ونسبة تمثيله في المجالس البلدية والاختيارية، أنه بيضة القبّان في كل استحقاق - باستثناء الشمال – وقد حقّق بذلك هدفين.
أ- الأول: أكّد ولاءه الكامل غير المتذبذب للوائح التنمية والوفاء، وهي التي تعبّر في الشكل والمضمون والتسمية والخيار عن تلاحم أطياف البيئة في السياسة والهوية والتوجّهات والرؤية حيال أي لبنان نريد، أي لبنان المستقلّ المتشبّث بهويته الوطنية والمقاوم الرافض لسياسات التبعية والارتهان للخارج.
ب- الهدف الثاني: أثبت للجميع، في الداخل والخارج، ترفّعه عن الدخول في لعبة التجاذبات الضيقة والتقوقع في بوتقة الحسابات الطائفية، وبرز ذلك في انتخابات بلدية بيروت من خلال دعمه خيار التوافق، حتى لو أدى ذلك إلى الاجتماع بلائحة واحدة مع الأضداد والخصوم في السياسة، حرصًا على وحدة العاصمة وتلافي تقسيمها إلى بلديات متعدّدة ذات صبغة طائفية مقنّعة. وهذه الخطوة بحد ذاتها، وعلى الرغم من الطعن المباشر الذي تتعرّض له الخاصرة الشيعية من هؤلاء الأضداد، تعكس رقي الخيارات الوطنية التي يؤمن بها الثنائي الوطني، ويمارسها في القول والفعل.
2. أكّد الناخب الشيعي توجهاته السياسية بأنها أولوية حاسمة متجاوزًا العناوين الأخرى، على أهميتها القصوى والمتعلّقة بالإنماء والإعمار والمطالب المعيشية وغيرها من المستلزمات الضرورية التي يتوجب على الدولة تأمينها للناس في الدرجة الأولى. وفي ذلك رسالة للأميركي و"الإسرائيلي"، ومن يسير في إثرهما من أطراف الداخل، بأن الضغوطات التي يمارسها هؤلاء للتأثير في قرار البيئة الشيعية في الملفات الإنمائية والاقتصادية والاجتماعية لا جدوى منها إزاء الكرامة والقرار الحرّ. وهذا ما كان يشدّد عليه الشهيد الأسمى السيد حسن نصر الله - رضوان الله عليه- في خطابه لهذه الفئة المجاهدة والصابرة بقوله: "يا أشرف الناس ويا أكرم الناس"، وهم كذلك بالفعل، وأثبتوه في محطات كثيرة سابقة في حياة سماحة السيد كما في غيابه.
3. أسقط الناخب الشيعي مقولة الأميركي و"الإسرائيلي"، وأذنابهما في الداخل، بأن حزب الله مرحلة وانتهت في لبنان. كما أسقط الرهانات التي بناها هؤلاء بأن الحرب العدوانية الأخيرة لم تضعف القدرات العسكرية والقيادية للمقاومة فحسب؛ بل أضعفت تماسك البيئة الشيعية وتمسّكها بخيار المقاومة.. لكن تجلّى سقوط هذه الرهانات بالإقبال غير المسبوق على صناديق الاقتراع، وخصوصًا في انتخابات بعلبك – الهرمل، ليحسم الثنائي الوطني النتائج بشكل قاطع لمصلحة خيار المقاومة – مدينة بعلبك نموذجًا – على الرغم من البروباغندا الإعلامية والضخ النفسي والمالي الذي مارسته أدوات واشنطن للتأثير في قناعة الناخب الشيعي وإرادته. ولا بد، هنا، من قبيل الإنصاف، تقدير الناخبين من الطوائف الأخرى الذين أثبتوا أيضًا ولاءهم للمقاومة ووطنيتهم الصادقة في تأكيد التحالف في لوائح "التنمية والوفاء"، على الرغم من سيل الإغراءات والتهديدات المباشرة وغير المباشرة التي تعرّضوا لها. وهذا تأكيد إضافي على أن خيار المقاومة كان وما يزال يعبّر عن ضمير الناس واتجاهاتهم.
4. أثبت الناخب الشيعي موقفه الموحّد، حتى في البلدات التي ترك فيها الثنائي الوطني للعائلات حرية الاقتراع لمن تراه مؤهلًا لتصدّر العمل البلدي والاختياري. إذ كان التنافس بين اللوائح ضمن البيت الواحد، ولم تخرج أي لائحة عن تبنّي خيار المقاومة، وتبارت اللوائح المتنافسة من خلال برامجها ومواقفها وأصوات مؤيديها حول من يثبت ولاءه أكثر، ومن يمكن له أن يقدّم خدمات أكبر لهذه البيئة المقاومة والصابرة على الحرمان، كما على العدوان وآثاره المدمّرة.
5. في مقابل قوة وثبات موقف بيئة التنمية والتحرير والوفاء للمقاومة؛ كشفت نتائج الانتخابات هزالة الطروحات التي حملها دعاة التغيير والسيادة المدّعاة؛ حيث سقط كل مرشّحي هؤلاء مع شعاراتهم الزائفة والمضلّلة باعترافهم هم، وبما أسفرت عنه الأرقام. وهذا يدلّ، بشكل واضح، على وعي الناس لما كان وما يزال يجري على الأرض من متاجرة بالشعارات والمواقف التي ترتدي لبوس الوطنية، فيما الحقيقة والوقائع أكّدت أن طروحات هؤلاء لم تكن سوى ترداد ورجع صدى لأجندة أمريكية مخطط لها أن تُنفّذ في لبنان خدمة لمشروع التوسع "الإسرائيلي" في المنطقة.
6. أثبت الناخب الشيعي أنه ليس رقمًا زائدًا أو عنصرًا طارئًا في النسيج الوطني اللبناني؛ بل هو في أساس وجود لبنان وهويته. ليس فقط على مستوى الحضور العددي والانتشار الجغرافي؛ بل أولًا في رسم معالم الخيارات الوطنية وحدودها واتجاهاتها، وثانيًا في انفتاحه على الشرائح الأخرى المكّونة للبنان على تنوّعها السياسي والحزبي والاعتقادي. وهذا يدلّ على رسوخ نظرة الثنائي الوطني إلى لبنان الفريد بتعدّد طوائفه وبتعايشه الإسلامي – المسيحي، وفي ذلك دعوة للشركاء في هذا الوطن إلى التواضع والركون إلى الحكمة في التعاطي مع هذه المكوّنات بعيدًا عن لغة الانعزال والتفرّد والاستقواء بالخارج.
في سياق المسألة الأخيرة؛ لفتت مصادر مراقبة إلى الخطاب الذي تعتمده "القوات اللبنانية" ورئيسها سمير جعجع، والمعتمد من أبواق دعائية، والذي يبرز فيه نزعة الاستعلاء والفوقية فضلًا عن رفض الآخر واستخدام مصطلحات وعبارات عنصرية مقيتة. ورأت المصادر أن مردّ هذا الأسلوب في التعامل يعود إلى إحساس جعجع بالخطر من مواجهة عزلة داخلية تدفعه إلى اعتماد خطاب متوتّر لا يوفّر فيه حتى حلفاءه. وهذا ما دفعه شخصيًا إلى إعلان "الانتصار الكبير" في انتخابات بلدية زحلة في همروجة إعلامية غير مسوّغة، فزحلة مدينة مشهورة بتعدّد انتماءاتها الحزبية اليمينية، وتمتلك فيها "القوات اللبنانية" حجمًا وازنًا، واستطاع جعجع اللعب على تناقضات الأطراف المسيحية فيها ليحقق الفوز لمرشحيه.
لكن المضحك في الأمر أن بعض وسائل الإعلام المسوّقة للخطاب الفتنوي؛ حاولت تصوير الأمر وكأنه انتصار على الثنائي الوطني. مع العلم أن هناك عضوًا واحدًا شيعيًا فقط في بلدية زحلة، ولم يعلن الثنائي أي تحالف أو لائحة في المدينة!! وهذا مؤشر – بحسب المصادر ذاتها – على الأزمة التي يعانيها فريق الانعزال في إثبات حضوره من بوابة الانتخابات البلدية والاختيارية، وكذلك خوفه من التأسيس على هذه النتائج، في استقراء المرحلة المقبلة، والتي سيعيد فيها جمهور الثنائي الشيعي وبيئته تسونامي الولاء ليمنع مصادرة لبنان وإلحاقه بالعصر الأمريكي – "الإسرائيلي".