مقالات مختارة

فؤاد بزي - صحيفة الأخبار
ناقش رئيس «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق» عبد الحليم فضل الله خيارات لبنان وسط التحوّلات الجذرية في المنطقة. فالدور الذي لعبه لبنان سابقاً سقط فيما هناك محاولات لاستعادته، يجري ذلك رغم أن الطلب على لبنان لم يعد قائماً في الإقليم، ولبنان لا ينتج ما يمكن تبادله مع الخارج القريب أو البعيد. وأهل الحكم، أو من يُطلق عليهم «النخبة» يتعاملون مع هذه التحوّلات كأنها غير قائمة ويحاولون إعمار نمط أدّى إلى الانهيار. وهذه مسائل في الأساس تقابلها ملفات محلية مثل إعادة الإعمار، إذ يجري التعامل معها «بتباطؤ غير مبرّر»، لذا على الدولة أن تكشف عمّا لديها وما ستدفع... يمكنها أن تدفع بالتقسيط
■ يقف لبنان أمام تحوّلات عميقة سياسياً وجغرافياً واقتصادياً، لكن لم يحصل أي نقاش يتصل بتموضع لبنان وتحديد رؤية تأخذ في الاعتبار الاقتصاد السياسي المناسب، فهل سبب ذلك قصر النظر لدى القيادات اللبنانية أم إنكار أم عجز؟
ثمة الكثير من المعوقات أمام انخراط لبنان في «جيواقتصادَات» المنطقة الجديدة. ففي عقلنا السياسي والاقتصادي الباطني، أن العودة إلى النمط والسياسات المتبعة سابقاً، هي أسهل ما يكون.
فضلاً عن أن هذه السياسات جاهزة والمؤسسات العامة والمصرفية والتجارية الموجودة قادرة على إنتاج النموذج نفسه، إلى جانب النخبة نفسها التي قادت النموذج القديم. وهناك إصرار على أنّ الاقتصاد اللبناني ليس مضطراً إلى إنتاج قيمة فعلية يمكن تبادلها مع الآخرين، إذ إن الدورة الاقتصادية السابقة اعتمدت على التموضع داخل حركة الأموال من وإلى المنطقة، ومن لبنان إلى اللبنانيين، وكان ذلك كافياً للظنّ بأن لبنان ينتج قيمة اقتصادية مضافة، لكنّ الواقع أنه ليس لدينا ما نتبادله مع الآخرين إلا بشكل محدود.
كما أن المنطقة ما زالت الأكثر استهدافاً بالعقوبات، وهذا يمنع لبنان من أن يكون جزءاً من الاقتصاد الإقليمي الجديد. فلم يكن ممكناً له التعامل مع سوريا سابقاً، والآن عليه أن يتعامل معها ضمن شروط تحدّدها وتحدّده. أيضاً لا يمكنه التعامل مع إيران بسبب العقوبات، وهناك قيود على علاقته مع العراق. حتى إن العقوبات طاولت روسيا. وقبل الحرب الأوكرانية كان لبنان يُعدّ مصلحة اقتصادية مؤجّلة ضمن تصوّر الولايات المتحدة الأميركية لمصالحها الاقتصادية في المنطقة.
هناك أيضاً عقبة التطبيع. فالمنطقة مقسومة بشأنه رغم تشابك المصالح. هناك جزء ذاهب نحو التطبيع عاجلاً أم آجلاً، وجزء آخر لا يمكنه الذهاب لأسباب داخلية ومبدئية، ومنها لبنان والعراق وإيران، بينما تقف سوريا على صدع زلزالي وغير معلوم توجّهها حتى الآن. محور التطبيع يعيد إنتاج مصالحه الاقتصادية بما يتناسب مع هدفه السياسي، لذا يتمركز داخل المشاريع العالمية على هذا الأساس، والممرّ الهندي مثالاً. أما بالنسبة إلينا، فلا نستطيع أن نكون جزءاً من التطبيع، ولا نريد ولا ينبغي لنا أن نكون.
لكن لدينا مصالح وشراكات مع أطراف انخرطت وتنخرط في التطبيع، وهذا ما يقيّد اندماج لبنان داخل اقتصاد إقليمي متكامل ومتشابك، علماً أن لبنان لديه ما يكفي من المواد ليكون شريكاً أساسياً، سواء الموقع الجغرافي على شاطئ شرق المتوسط وهو منفذ من مشروع «الحزام والطريق»، وهو منفذ لخطّ التنمية أو ممر التنمية العراقي وإعادة إعمار سوريا، ويمكنه أن يكون جزءاً من أيّ شبكة إقليمية على مستوى النقل البحري.
ولبنان مورد بشري مهم، أي بدلاً من تصدير هذه الطاقات يمكن العمل على توطينها هنا واستخدام لبنان مقراً لتقديم الخدمات ذاتها التي يهاجر اللبنانيون لتقديمها من الخارج. لا ضرورة لتهجير عشرات الآلاف لتقديم هذه الخدمات في دول المنطقة. مثلاً، عندما أثير موضوع التنقيب عن النفط بدأ الحديث عن تحويل لبنان إلى مركز للتدريب الفني المرتبط بعمليات التنقيب، إذ تبلغ كلفة برامج التدريب هذه 60 ألف يورو في أوروبا، بينما تنخفض إلى 20 ألفاً في لبنان.
■ ما هو الخيار البديل للمكاسب التي يمكن حصدها من مشروع التطبيع؟
في موضوع التطبيع، أريد الإشارة إلى أنّ المهتم بالتطبيع هو الأميركي وبعض العرب، والإسرائيلي ليس مهتماً إلا بتقويض كل مصادر التهديد. الذهاب نحو التطبيع هو استرضاء لأميركا في إطار رؤيتها للمنطقة، وهي تعتقد بأنه يجب أن تكون مستقرّة نوعاً ما ضمن أجندتها العالمية التي يبطّئها الشرق الأوسط. في لبنان لم يتحدّث أحد عن التطبيع بشكل جدّي.
والتطبيع بالنسبة إلى الأميركي هو نسخ متعدّدة منها البحرينية والإماراتية والسودانية، والمغربية، والسعودية، ويُحتمل أن تكون هناك نسخة سورية ولبنانية. وموجة التطبيع الراهنة تقوم على الشراكات والمشاريع الكبرى، مثل البنية التحتية، الممرات الدولية والإقليمية، وخطوط السكك الحديد، وممرات الطاقة، وهذه النسخة لا تشبه تلك التي سبقت وفيها تبادل تجاري له علاقة بالإنتاج والكلفة والمصالح. مثلاً، لا يشتري المواطن الأردني سلعاً إسرائيلية ولو كان ثمن البضاعة المقابلة 10 أضعاف ثمن البضاعة الإسرائيلية.
بينما عندما يشتري الكهرباء والمياه والغاز فلا حول له ولا قوة. هذه المشاريع الكبرى هي التي ستحكم المنطقة كلّها، وهي ستستنزف رأس المال الإقليمي إذا بدأت. التطبيع في هذه الحال سيمتص جزءاً من التمويل المتاح في المنطقة، وسيكون التطبيع جزءاً من الثقب الأسود الذي سيجتذب التمويل في المنطقة، وسيذهب المال حيث الإسرائيلي شريك في الخليج ودول المنطقة المطبّعة.
في المقابل، هناك مساحة اقتصادية محدودة ومحدّدة في الدول خارج التطبيع، علماً أن فصل الدول المطبّعة عن غير المطبّعة صعب، إذ هناك تشابك كبير بين الفريقين في المصالح السياسية والاقتصادية والجغرافية والجيوسياسية. وهذا أحد العوائق. بالنسبة إلينا، التطبيع ليس خياراً بأيّ معنى من المعاني، حتى لو وضعنا جانباً موضوع المبادئ والخيارات السياسية، فلا مصلحة لنا في التطبيع مع منافسين.
والبديل أن نبحث عن مصالحنا ونبني شراكات، إذ لدينا مصالح اقتصادية مرتبطة بالتحوّلات داخل المنطقة. مثلاً لدينا مصلحة اقتصادية مرتبطة بإعادة إعمار سوريا، وفي الداخل، لدينا مصلحة في إعادة إعمار لبنان، لا ما دمّرته الحرب فقط، بل ما دمّرته الحرب والسياسات. لا نهوّن من نتائج الحرب، فكلفة إعادة إعمار المساكن مع البنية التحتية تصل إلى 4 مليارات دولار. بينما إعادة إعمار القطاع المصرفي، أو ما يُسمّى الفجوة، تبدأ بـ60 مليار دولار.
■ هل تعتقد بأن النخبة اللبنانية تحاول استعادة دور وظيفي كان يلعبه لبنان في الخمسينيات وانتهى، وأن هناك جدوى من «إعادة إعمار النموذج» الذي أوصل لبنان إلى الانهيار؟
في حال وضعنا التطبيع والظروف الجيوسياسية جانباً، فإن الشرط الأساسي أن يكون لدى لبنان ما يقدّمه للإقليم والعالم ليحقّق سيادته الاقتصادية. فقد بُني اقتصاد لبنان في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ليكون مركزاً تجارياً، وعلى هذا الأساس أنشئت المصارف والبنى التحتية. وبعد الاستقلال نقلنا الاقتصاد ليكون في خدمة التحوّلات في العالم العربي. وفي الخمسينيات والستينيات كان القطاع المصرفي شغّالاً إلى جانب عدد قليل من المنتجات الصناعية والزراعية، فكانت الإنتاجية متدنّية في مقابل التحويلات التي كانت تعوّض ضعف الإنتاجية. إنما بعد الحرب الأهلية، صار الميزان التجاري غير متوازن بشكل كبير، ما يعني أن لبنان لا ينتج ما يكفي للتبادل مع الخارج، ومن أجل تعويض النقص الهائل في الإنتاجية الفعلية، انخرط لبنان أكثر في الدورة المالية القائمة على المصارف مع بعض الاستثمارات والتحويلات. ثم من أجل تغطية الإنفاق الكبير للقطاعين العام والخاص، جرى تضخيم المداخيل من خلال دعم سعر الصرف، واستُعملت المداخيل المضخّمة كضمانات للديون. فزاد الاستهلاك واتّسعت فجوة الحساب الخارجي وعظّمنا دين القطاعين العام والخاص.
حذارِ مما يحصل الآن. فقد بدأنا نؤسّس للنموذج نفسه؛ ثبّتنا سعر الصرف. وبدأ الاقتصاد ينمو بالدولار الاسمي لا الحقيقي، إذ ارتفع الناتج المحلي إلى 28 مليار دولار مقارنة مع 20 مليار دولار قبل سنتين، وعاد الاستيراد إلى ما كان عليه، وعاد عجز الميزان التجاري أيضاً. كلّ شيء عاد إلى ما كان عليه إلا القطاع المصرفي.
في التسعينيات بُني هذا النمط أو المقاربة الاقتصادية وفشلت فشلاً ذريعاً. اليوم ندفع ثمن فشلها. أُديرت بطريقة سيئة، والمسؤول عنها سياسات وسياسيون. لكن عندما وضعت هذه الرؤية كان هناك تصوّر لدور ما للبنان؛ أن يلعب دوراً مشابهاً للستينيات بأن يكون مركزاً مالياً عربياً ومركزاً للشركات الكبرى، وأن يكون نجماً من نجوم السياحة الإقليمية.
وكان هناك طلب إقليمي على هذا النوع من الخدمات حتى في القطاعات التي أُهملت مثل التعليم والصحة، إذ بقي الطلب قائماً. لكنّ الفرضية التي قام عليها هذا النمط الاقتصادي فشلت في إقامة عمارة اقتصادية شاهقة على قاعدة إنتاجية صغيرة. المشكلة اليوم أنّنا نريد تجديد نفس المقاربة فيما ليس هناك طلب على الدور القديم للبنان.
لا طلب إقليمياً علينا في عام 2025 بسبب عدم وجود قاعدة إنتاجية. وبالتالي، قبل الذهاب نحو المشاريع الكبرى والشراكات التجارية الكبرى، علينا اختبار اقتصادنا ومعرفة حجم رأسمالنا.
هل لبنان يشبه الصين أو دول الخليج أو الولايات المتحدة؟ هل لدينا مراكمة اقتصادية جيّدة مثل تركيا؟ لا يمكن أن نكون شركاء إلا إذا امتلكنا ميزة جغرافية أو قيمة نقدّمها للتبادل مع الخارج. كما أن المشاريع الكبرى لا تقوم على التنافسية فقط، بل تتحكّم فيها اعتبارات اقتصادية وجيوسياسية. بالنسبة إلينا، هذا عائق، لكن كيف نعالجه؟
حتى لو مال لبنان إلى أحد الاتجاهين (التطبيع أو الاتجاه الآخر) فهذا لا يعني الإنقاذ، لأنه لا طلب على دورنا في كلتا الجهتين. أقصى ما حصّلناه مع الجهة المطبّعة، هو رفع الحظر عن السياحة. ولا أحد يقول إن المقاربة الخليجية الجديدة ستقدّم مالاً سياسياً مفتوحاً، إلا وفق مقاربات محدّدة. ولا أحد يقول إنّ لبنان هو الخيار الوحيد. سوريا خيار أيضاً. وعند البعض الآخر فلسطين هي الخيار. الطلب على لبنان تراجع بسبب تنويع الخيارات عند الآخرين.
أيضاً يقال إن العقوبات تمنع من الذهاب إلى دول أخرى، لكنّ هناك دولاً كالعراق لا يُشهر عليها سيف العقوبات بشكل رسمي، وحتى مع إيران هناك أنواع من الشراكات لا تطاولها العقوبات.
بالنسبة إلينا، مصلحتنا السياسية التي تؤسّس لدور اقتصادي هي تنويع الخيارات والتوازن في العلاقات الخارجية، ومن يريد اللاتوازن في العلاقات سيميل إلى المجموعة التي لا تهتم كثيراً بالشراكة مع لبنان، ولا بموادّنا الأولية وهي الموقع الجغرافي والمزايا الطبيعية. في المقابل، هناك مجموعة مهتمة بالشراكة معنا وتقدّم العروض تلو العروض. في حال تنويع الخيارات، سيكون لنا دور. عملياً، هناك أمر ما علينا القيام به، بمعزل عن الاتجاه والخيار.
«لازم نقوي قلبنا». سأعطي مثالاً هنا عن باكستان. هذه الدولة طوّرت ميناء «جوادر» مع الصين. وهي على طول الزمن متموضعة مع السياسة الأميركية في منطقتها. ولعبت دوراً في أفغانستان من دون الدخول في التفاصيل. ولكنّ باكستان اكتشفت ميزتها تجاه الصين، واكتشفت ميزة الصين بالنسبة إليها، فقامت بتغييرات على مستوى البنى التحتية التي لها علاقة بالتصدير من مدن إنتاجية صينية، ووجدت الصين أنّ الطرق عبر باكستان أقرب إليها، فقامت بتأهيل هذا الميناء مع البنى التحتية في باكستان، ولم يتمكّن الغرب من منعها لأنّ المصلحة الاقتصادية لا يمكن تجاوزها.
عندما نشير إلى تنويع الخيارات، نتكلم عن الصين القادرة على أن تكون شريكاً فاعلاً لبلد رأسماله ما دون الصفر فيما يضع عليه الغرب شروطاً لا يمكن الاستجابة لها قبل حل الجزء الأكبر من المشاكل. هناك فائض تمويل من الشرق يزداد بتسارع، وهذا التمويل شروطه أسهل، فلنستفد منه، ويُحتمل أن لا يستمر طويلاً، أو أن يجد ملاذات ثانية.
■ العهد الجديد وحكومته حملا عنوان الإصلاح والإنقاذ، لكن لم نرَ ترجمة لهذه العناوين، ولا يُطرح على النقاش أيّ منها، فما تفسيرك لهذا الأمر؟
في التجربة، مررنا بأمرين؛ نتكلم كثيراً أو لا نقول شيئاً. في التسعينيات، طُرحت خطّة النهوض الاقتصادي وأدّت إلى نقاش كبير، ثمّ وُضعت الخطة العشرية. وفي عام 2018 جاءت خطّة ماكينزي.
لدينا الكثير من الوثائق والتصورات والمشاريع. والحكومة الحالية طرحت 68 مشروعاً لكنها توحي بأن الإصلاح هو عمل إداري يكتفي بمشاريع التعيينات والتعامل مع استحقاقات، إنّما لا نقدّم مقاربة حقيقية للغد. المطلوب رسم محاور للمستقبل. مثلاً معالجة الأزمة المصرفية هي مدخل للتفكير في المستقبل، كما أن توزيع المسؤوليات هو نقطة نظام للتفكير في المستقبل أيضاً.
والاستشراف يفيد في كشف نوايانا لأنفسنا أو للآخرين. فهل القطاع المصرفي هو مضخّة أموال فقط لا غير، أم له دور في إعادة تكوين رأس المال الوطني؟ هل نكتفي بمصارف مشابهة للموجودة حالياً، أو مصارف أخرى بأدوار مغايرة؟ هل نريد أن يدخل لبنان إلى مؤسسات مالية عالمية وإقليمية، مثل بنك التمويل الآسيوي، كما هو عضو في البنك الدولي؟
مثلاً في البنى التحتية، لا يستطيع البلد النهوض من دون إعادة تأهيل بناه التحتية، وفي مؤتمر «سيدر» الأخير تبيّن أنّنا بحاجة إلى 17 مليار دولار، لكن علينا إعادة قراءة هذه الخطة واستكشاف حاجات الاقتصاد.
يجب أن نعيد قراءة القطاعات الاقتصادية أيضاً؛ هل نعيد توسيع «كفالات»، أو نطوّر «إيدال»؟ هل لدى لبنان مزايا تنافسية في قطاعات الصناعات الغذائية والكيماويات وغيرها؟ أي قطاعات يجب أن تحظى بأولوية التمويل؟ على الحكومة أن تفكر خارج الوسائل التقليدية لتوزيع الدعم بلا دراسات جدوى. الهدف هو ارتقاء لبنان بسلاسل القيمة وهذا يحتاج إلى رؤية من الدولة وإعادة نظر في دور القطاع الخاص ورأس المال.
■ كأنّك تحلّق في فضاء بعيد بينما الحكومة بدأت تستعيد استسهال فرض الضرائب على المحروقات وتمرير الأمر على شكل تهريبة في مجلس الوزراء ولم تعقد جلسة واحدة لإعادة الإعمار؟
ناقشنا مع رئيسَي الجمهورية والحكومة ملف إعادة الإعمار، ولم يظهر لنا وجود سوء نيّة، إنما هناك تركيز على التمويل. ليس هناك تمويل جاهز. وكأنّ عملية إعادة الإعمار هي تحصيل حاصل وتأتي من دون جهد مؤسساتي وتشريعي مساند وممهّد لعملية إعادة الإعمار.
في الواقع، هناك رغبة خارجية تقليدية للمساهمة في هذا التمويل، وهناك متضررون يتلقّون تمويلاً على شكل مساعدات من أشخاص، وقرى تستفيد من تبرّعات أهاليها، وهذا يدل على غياب الوعاء الوطني لاستيعاب المبادرات الهامشية. فلماذا لا نشكّل صندوقاً رسمياً لإعادة الإعمار؟
ولماذا قوبلت المبادرة العراقية في القمة العربية لتشكيل صندوق لإعادة إعمار غزة ولبنان بتجاهل، إذ لم يُضَف أيّ دولار على الـ20 مليون دولار العراقية؟ الصندوق هو أولى خطوات جذب التمويل، كما أننا بحاجة إلى التشريعات التي لا تخدم الآن من يريد إعادة إعمار منزله المهدّم من دون انتظار الدولة. رغم توقف العدوان منذ نحو 6 أشهر، أُقرّت هذه الإعفاءات في الأسبوع الماضي. هذا شكل من أشكال التباطؤ غير المبرّر.
أيضاً يمكن الإشارة إلى الأبنية المتصدّعة التي تحتاج إلى أعمال إنشائية بكلفة 37 مليون دولار. هذا الرقم يمكن تأمينه لإعادة آلاف العائلات إلى منازلها. الأمر لا يحتاج إلى الكثير من التفكير. الحكومة قادرة على تأمين هذا التمويل، علماً أن الدولة لا تدفع بدل إيواء. وفي مجال البنية التحتية، نعرف أن البنك الدولي وافق على قرض بقيمة 250 مليون دولار، وبحسب تقديراتنا تكلّف البنى التحتية في كلّ لبنان 300 مليون دولار. في عدد من الأماكن لا تزيد كلفة الطرق عن 20 مليون دولار.
هذا النوع من التمويل مقدور عليه، لكنّ الإجراءات والآلية الغائبة، كلّها بطء غير مبرّر كالإحصاءات. فهذه الأرقام جاهزة فقط عند جهاد البناء.
هناك أمور مقدور عليها. مثلاً أعطت الدولة المتقاعدين، وهم يستحقون أكثر، ولأن الدولة شعرت بأنها مضطرة إليه أمّنت التمويل. ما تبقّى من إعادة إعمار الأصول المدمّرة كلفته بين 3 مليارات و4 مليارات دولار. اللافت أن ملف الإيواء والترميم وبعد مسح 235 ألف وحدة مدمّرة ومتضررة، سُدّدت 75% منه واكتمل، أي أكثر من مليار دولار. الحزب أنجز هذا الأمر في ظل حصار مطبق.
في تقديري ينبغي دمج كلفة إعادة الإعمار في المالية العامة للدولة، إما في الموازنة العامة أو بشكل ملحق بها. يجب أن تكون عملية إعادة الإعمار جزءاً من الحسابات العامة للدولة. دمج حسابات الدولة عمل سيادي للحفاظ على وحدة الكيان المالي. فلتقل الدولة ما لديها وما تستطيع أن تدفع... يمكنها أن تقول إنّها قادرة على التقسيط، وإن بدء الإعمار سيحفّز آخرين. عقبة التمويل توضع لتسديد ثمن سياسي، أما إذا وقفنا ورفضنا تسديد ثمن سياسي فسيأتي الأجنبي عندها للمساعدة.
■ أقرّ مجلس الوزراء ضريبة المحروقات خضوعاً لإملاءات صندوق النقد، فهل يمثّل هذا الخضوع أحد عوامل الضغط التي ستتكرّر؟
مضت 5 سنوات على الإملاءات. لماذا لم نقم بالإملاء على أنفسنا؟ في نية صندوق النقد الذهاب نحو الضرائب مثل رفع قيمة الضريبة على المحروقات والقيمة المضافة. لكن من كان في الحاضنة الدولية مع صندوق النقد، صار ضدّه بسبب تضارب المصالح الدولية. ومن لائحة إصلاحات الحكومة «إنشاء صندوق مستقلّ لإعادة الإعمار»، لكنها لم تتحرك باتجاهه بعد، والأمر نفسه بالنسبة إلى استئناف المفاوضات مع صندوق النقد. فلنغربل الإصلاحات ونخرج بالمفتاحية منها. لنعمل على قانون ضريبة الدخل ونحدّد أي ضريبة لأي اقتصاد نريد.
هل يجب أن نزيد ضريبة القيمة المضافة، أم يمكن توزيعها على شطور وهذا أمر مناسب للبحث فيه عند وضع الموازنة العامة؟ حالياً هناك شطران؛ صفر و11%، فلنضع شطراً إضافياً. هناك عشرات السلع التي يمكن رفع الرسوم الجمركية عليها بضمير مرتاح. حالياً، نحن نستسهل فرض الضرائب، فمن يلجم ارتفاع الأسعار من الضريبة على المازوت؟ هل من تقدير؟ ما هو الأثر المضاعف؟