نقاط على الحروف

فجأة؛ ومن دون مقدمات تصاعدت التصريحات والمؤشرات التي توحي بقرب تنفيذ اعتداء محتمل على الجمهورية الإسلامية في إيران. ولقد بات واضحًا بأن الهدف الرئيسي المعلن من العدوان، في حال حصوله، يتمثل بالمنشآت النووية الإيرانية وفقًا للخطاب السياسي والإعلامي الذي يسوّقه الكيان الصهيوني والولايات المتحدة.
لذلك السؤال: هل يمكن الأخذ بتلك التهديدات والمؤشرات على محمل الجد؟ أم أنها تأتي في سياق الضغوط والتهديدات التي خبرتها طهران طوال العقدين الفائتين؟.
تأتي تلك التهديدات بعد أن وصلت المفاوضات بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية إلى مرحلة حساسة بعد خمس جولات من التفاوض. ولقد بات واضحًا بأن نقطة الخلاف الرئيسة تتعلق بتخصيب اليورانيوم؛ حيث ترفض إيران بشكل مطلق التنازلعن هذا الحق السيادي، وهو ما أكدته التصريحات الصادرة عن كبار القادة الإيرانيين. في المقابل؛ واشنطن وعلى لسان ترامب ما تزال تصرّ على محاولة سلب إيران هذا الحق وتحاول التلويح بسياسة حافة الهاوية عبر التهديد بإعلان فشل المفاوضات؛ وكأنها لم تخبر من قبل رصانة المفاوض الإيراني وحنكته. ويأتي ذلك كله قبيل الاتفاق على موعد الجولة السادسة والحاسمة من المفاوضات ومكانها، عبر الوسيط العماني.
يقودنا ذلك كله إلى البحث في أسباب التصعيد الحالي وتوقيته وخلفياته، ولماذا اختار كل من الولايات المتحدة والترويكا الأوروبية والكيان الصهيوني هذا التوقيت للترويج لهذا التصعيد الخطير؛ على الرغم من علمهم بنتائجه الكارثية التي يمكن ان تقود إلى انفجار المنطقة بالكامل؟
أولًا - بالنسبة إلى الولايات المتحدة
تعاني إدارة ترامب أزمة داخلية عميقة وخطيرة، تتمثل بالاحتجاجات وأعمال الشغب التي انطلقت، من أسبوعين في مدينة لوس انجلوس في ولاية كاليفورنيا معقل خصومه الديمقراطيين، والتي بات من الواضح أنها في تصاعد مستمر؛ فمن المرتقب أن تمتد تلك الاحتجاجات إلى كامل التراب الأميركي يوم السبت القادم. وتشير كثير من التقارير إلى أن تلك الاحتجاجات ليست عابرة ولن تظل في إطار التعبير عن الرأي، بل تتجاوز ذلك إلى المطالبة بإسقاط ترامب ومنعه من إتمام ولايته. فقد بات معلومًا أن تلك الاحتجاجات تعكس الانقسام الداخلي والصراع بين تحالف ترامب الذي يضم المحافظين وحركة "ماغا"، وتحالف الدولة العميقة الذي يضم العولميين الليبراليين واليسار الراديكالي.
ثانيًا - بالنسبة إلى الكيان الصهيوني
تعرضت حكومة اليمين التي يقودها بنيامين نتنياهو إلى ضربتين موجعتين. تمثلت الأولى بالفضيحة الكبرى التي تسببت بها عملية الإستخبارات الإيرانية، والتي تمكّنت من الاستحواذ على كميات ضخمة من الوثائق الإستراتيجية المتعلقة بمشاريع ومخططات الاحتلال وبرنامج الكيان الصهيوني النووي، بما فيه منشآته السرية وغيرها الكثير من أسرار الكيان في مجالات شتى. وقد نقلت تلك الوثائق الضخمة إلى الداخل الإيراني، بشكل آمن، وهو ما يعني بالمختصر بأن الكيان بات مكشوفًا بالكامل وعلى الأصعدة كلها. أما الضربة الثانية؛ فتتمثل بالتهديد السياسي لحكومة نتنياهو، والتي بات مرجحًا سقوطها في ظل أزمات الكيان الداخلية..
ثالثًا- بالنسبة إلى الترويكا الأوروبية
المقصود، هنا، الدول الثلاث "بريطانيا وفرنسا وألمانيا"، والتي كانت في السابق جزءا من المفاوضات النووية، وجزءًا من الاتفاق النووي الشامل الذي انسحبت منه واشنطن، حيث تلاقت مصالح الدول الثلاث في هذه المرحلة في إطار واحد عنوانه إفشال المفاوضات الأمريكية- الإيرانية والدفع باتجاه التصعيد. إذ تخشى الدول الثلاث اتفاقًا أميركيًا إيرانيًا يحجّم دورها الجيوسياسي، ويتجاهل مصالحها الإقليمية، خاصة إذا ما أخذنا بالحسبان محاولة إدارة ترامب تهميش تلك الدول فيما يخص الملف الأوكراني لصالح الاتفاق مع روسيا. وعليه؛ فإن تلك الدول الثلاث باتت تعمل، بشكل جماعي، لإفشال استراتيجيات الإدارة الأمريكية الحالية في سعيها للسلام المزعوم الذي تسعى إليه، في إطار الانتقال إلى نظام عالمي جديد على حساب أوروبا تحديدًا ..
إذًا؛ من الواضح بأن الخطاب التصعيدي والتهديدي الذي تتبناه الولايات المتحدة والدول الاوروبية والكيان الصهيوني ضد إيران، يعود إلى أسباب متنوعة؛ منها ما هو داخلي، ومنها ما يتعلق بالتنافس فيما بينها على النفوذ والمصالح. والأمر لا يتعلق، بشكل رئيسي وجوهري، بطبيعة البرنامج النووي الإيراني وخطوطه الحمراء كما يروجون لها، خاصة وأن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أكد بأن مطالبة واشنطن بمنع إيران من امتلاك السلاح النووي يتفق مع طبيعة البرنامج النووي الإيراني، وأن ذلك يمكن معالجته من خلال نظام مراقبة يجري الاتفاق عليه عبر المفاوضات بالتنسيق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما يعني وجود أرضية للاتفاق بين الجانبين، مع احتفاظ إيران بحقها في التخصيب ورفع العقوبات ..
يمكن اختصار ذلك كله بالقول بأن خيار التلويح بالحرب هو محاولة من تلك الدول للهروب إلى الأمام، أو هو خيار سياسة الضغط القصوى للحصول على تنازلات تحتاج إليها. إذ إن إدارة ترامب تريد التغطية على مشكلاتها الداخلية من خلال الوصول إلى اتفاق مع إيران عبر الضغط، والدول الأوروبية تسعى للحصول على مكاسب اقتصادية واستثمارية من طهران، وواشنطن من خلال الضغط لإشراكها بالاتفاق أو في ساحات أخرى مثل أوكرانيا. وأما الكيان الصهيوني؛ فإلى جانب الهروب من مأزقه الداخلي؛ هو يسعى إلى مكاسب إقليمية يعتقد أنه سيخسرها إلى الأبد في حال الوصول إلى اتفاق بين واشنطن وطهران ..
أمام هذا المشهد؛ يمكن الإستنتاج بأن خيار الحرب بمعناها الحقيقي مستبعد بنسبة كبيرة، وأن الأمر أقرب ما يكون إلى البروباغندا المكشوفة التي لا تخفى على صانع القرار الإيراني. وأن أقصى ما يمكن لتلك الدول القيام به لا يتعدى مناوشات، ولا يمكن أن ترقى لتوصيفها بالحرب، خاصة إذا ما أخذنا بالحسبان قدرات إيران العسكرية المتطورة، وتحالفاتها الإقليمية القادرة على تهديد الكيان الصهيوني والمصالح الأمريكية والأوروبية (الطاقوية والتجارية).