نقاط على الحروف

في الحروب الواضحة، بين الحقّ والباطل، تزول تمامًا مناطق الحياد، ويسهل الاختيار إلى أيّهما ينتمي المرء، أو يميل على الأقل. وكذلك يسهل تمييز المصطفين في كلّ معسكر وفقًا لخطابهم ومفرداتهم وسلوكهم اليوميّ وتفاعلهم مع الخبر الحربي، وحتى انفعالاتهم الظاهرة أو المخبوءة في فلتات لسانهم.
هذه العلامات التي تدلّ على تموضع الفرد في المعركة تبدو أشدّ وضوحًا حين يكون هذا الفرد مؤسّسة إعلامية؛ فاللغة الإخبارية والعناوين المختارة والسياقات التي تنتقيها المؤسّسة في التعبير عن اصطفافها، مهما تزّيت بزيّ الحياد، تظلّ واضحة وصريحة. من هنا، ومع أمسية تلفزيونية واحدة، يمكن للمشاهد وبسهولة تامة تحديد موقعية المؤسّسة الإعلامية في الحرب، حتى تبيان إذا ما كانت شريكة فيها على المستوى الإعلامي والنفسي أو لا.
منذ لحظات العدوان الأولى على الجمهورية الإسلامية في إيران، شنّ بعض الإعلام العربي والمحلّي غارات إخبارية تؤازر العدوان، تسوّغه بلغة تفوّقت فيها على ذلك العبري، وترصد مؤشرات واحتمالات "سقوط إيران" الواردة في أوهام الأميركي و"الإسرائيلي"، حتى تصوّرها كما لو أنّها واقع جرى حسمه. وتتابعت الأحداث، ومعها تصاعدت لغة الاصطفاف.
إليكم على سبيل المثال لا الحصر، بعض من صياغات محليّة بتوقيع MTV، يظنّها المرءـ،للوهلة الأولى، مترجمة عن "اللغة العبرية"، ثمّ يلتفت إلى حقيقة أنّ الإعلام العبري نفسه بدا أكثر إقرارًا بوجع الصهاينة وضعفهم :
• "إسرائيل تنفّذ عمليات عسكرية واستخباراتية في العمق الإيراني": أسقط محرّر الخبر صفة العدوان تمامًا عمّا ترتكبه "إسرائيل" وصوّره وكأنّه إجراء روتيني تمارس فيه حقًّا طبيعيًا، مع نوع من التباهي بالفعل وفاعله، في إيحاء بأنّ "العمق الإيراني" مستباحٌ تمامًا.
• "الحكومة الإسرائيلية عازمة على تحقيق الأهداف الإستراتيجية التي وضعتها للحرب؛ وكلّ المؤشرات تدلّ أنّها قادرة على ذلك": "كلّ المؤشرات" يوحي بوجودها المحرّر، والتي هي من دلّته على "قدرة إسرائيل على تحقيق أهدافها" غير موجودة سوى في ذهنه، فحتى في الخطاب الإعلامي الصهيوني الأكثر تعنّتًا وتطرّفًا لم ينطق أحدٌ بهذا اليقين بمقدرة "إسرائيل" على حسم الأمور! بدت MTV هنا ملكية أكثر من الملك، موقنة بقدراته أكثر منه، مؤمنة به!
• "تركّز إسرائيل قصفها على مقرات عسكرية والضربة الأكبر كانت أمنية عبر استهداف ١٤ عالمًا إيرانيًا": صياغة الخبر هنا تتبنى الرواية الصهيونية كاملة؛ إذ تنكر استهداف الأحياء السكنية من جهة، ومن جهة أخرى تحسب "العلماء" أهدافًا عسكرية مشروعة، وفي ذلك ليس تضليلًا فحسب، أيضًا هو اشتراك في الاستهداف!
• "تفوّقها ظاهر إستخباراتيًا وعسكريًا...": ينكر المحرّر هنا، ولغايات في نفسه، الردّ الإيراني الاستخباري والعسكري، ويظهّر العدوّ كإله تعجز عن مواجهته أيّ دولة.
• "أعلنت تلّ أبيب إحكام سيطرتها الجوية من غرب إيران إلى طهران": نسي المحرّر هنا أنّ الدفاعات الجوية الإيرانية تمكنّت من إسقاط طائرات حربية ومعادية ومسيّرات ما ينفي مزاعم السيطرة الجوية التامة.
• "طهران ستحترق": تجاهلت MTV هنا تمامًا أنّ التي احترقت هي "تلّ أبيب"! ربّما أنسته بهجة مشاهدة العدوان على إيران متابعة ما يجري في كيان الاحتلال، أو لخلل ما لم يتسنّ لمحرّريها أن يشاهدوا الصور الآتية من "تل أبيب المنكوبة"، أو ربّما تسري هنا الرقابة العسكرية الصهيونية أيضًا فتمنع عرض ما يُضعف الكيان!
في المقابل، ولأن لا بدّ من الموضوعية، لا بدّ أن تأتي MTV على ذكر الردّ الإيراني. كيف؟
"أطلقت إيران نحو خمسين صاروخًا باتجاه إسرائيل وتمّ اعتراضها كلّها"!؛ المضحك المبكي هنا، أن "إسرائيل" نفسها تقرّ بأنّ الصواريخ الإيرانية تتسبّب بأضرار جسيمة يُمنع الإفصاح عنها. كما يُمكن للعالم كلّه أن يرى بالعين المجرّدة الدمار غير المسبوق الحاصل في كيان الاحتلال، و يقرّ به سواء أكان مفجوعًا منه أو مبتهجًا به! وحدها MTV تغرق في بؤرة الإنكار هذه، وتدفن رأسها في الوحل العبري؛ وتقول "تمّ اعتراضها كلّها". لعلّنا بعد حين نشاهد وثائقيًا، على شاشتها، يروي لنا تفاصيل تعرّض "تل أبيب" والمستوطنات "الإسرائيلية" لهجوم مريخيَ مثلًا أدى إلى دمارها! وكي تواصل MTV السياق نفسه، يحسم المحرّرون فيها معركة لم يتمكّن الأميركي من حسمها ولا ربيبته "إسرائيل"، فيقولون بلهجة الواثق: "إيران انكشفت استخباريًا وثبت عجزها عسكريًا"؛ وهنا حتى الصهاينة حين يسمعون الخبر سيعييهم الذهول حتى قد يسألون القيمّين على MTV: "حقّا؟! متى حدث هذا ومَن تمكّن من تحقيقه؟!".
كانت تلك عيّنة عن مؤشرات ولغة الاصطفاف السهلة التمييز في المؤسسات الإعلامية. وإليكم السؤال الآن: أين تموضعت MTV، وهل عملها هذا هو مجرّد تعبير عن اصطفاف في معسكر أم أنّه يتعدّى الاصطفاف ليؤدي دور المشارك الفعلي في الشقّين النفسي والإعلامي من الحرب؟
لا جائزة لمن يجد الإجابة الصحيحة، فوضوحها يسهّل تبيّنها حتى على غير العاقلين!